الأراضي المقدسة الخضراء / GHLands
سابقًا، كان الحديث عن وجود قوارض في البيت أمرًا محرجًا، ومدعاة للتشكيك في نظافة أصحابه، أما اليوم، فهذه الكائنات تفرض نفسها على كثير من حوارات الغزيين، يتحدثون باشمئزاز وملل عن تطفلها على حياتهم وعجزهم عن التخلص منها، والكل يدرك أن انتشارها ما هو إلا واحد من تبعات الحرب، فمن الطبيعي أن تنتشر بينما لا تزال أطنان الحجارة مكومة مكان المباني المدمرة، والمياه العادمة تتسرب في الشوارع، ووسائل المكافحة صعبة المنال.
في الخيام والبيوت
تسكن الشابة سناء عليان وأسرتها في خيمة على أنقاض بيتها المدمر، القوارض بأنواعها وأحجامها صارت جزءًا من حياة الأسرة، حتى أنها استيقظت من نومها ذات ليلة على شعور بوجود شيء غريب في ملابسها، استكشفت الأمر فتبين أن فأرًا صغيرًا دخل قميصها.
تقول عليان: "أن تعيش في خيمة، يعني أنك في الشارع، وكل ما يحصل في الشارع يحصل في خيمتك، ومن ذلك دخول القوارض للمكان متى شاءت، مع الوقت لم نعد نخاف من الفئران، أما الجرذان أو "العِرس" كما اعتدنا تسميتها، فخوفنا منها لم ينقطع، نخشى أن تؤذينا".
الازدحام السكاني وتراكم الردم والنفايات وتدفق المياه العادمة في المساحات المفتوحة بين خيام النازحين في قطاع غزة بيئة خصبة جدا لانتشار القوارض والزواحف
وتضيف: "عثرنا على مصيدة بين الركام، لا نستغني عنها، أحيانًا تقبض على ثلاثة فئران أو أكثر في اليوم الواحد"، متابعة: "من حسن الحظ أننا وجدنا المصيدة، فمثلها غير موجود في السوق، ولا حتى المصائد اللاصقة التي لا تفي بالغرض أساسًا، أما السموم فأغلبها مغشوشة وغالية".
الأمر لا يتوقف عند الخيام، فالبيوت لم تعد محمية، حيث قوة القصف تُهشّم الزجاج، وتُتلف العوازل الشبكية، كما أن الدمار الذي أحدثه الاحتلال طال نسبة كبيرة حتى من البنايات التي ما تزال قائمة، باستهداف جزء منها أو طوابقها العليا.
تتحدث إيمان عبد الواحد: "أسكن في الطابق الأرضي من بناية نصفها العلوي مُدمر وركامها ينتشر حول شقتي التي لم أهنأ بالعودة لها بعد رحلة النزوح إلى المحافظة الوسطى، فسرعان ما ظهرت مشكلة القوارض".
وقد عانت المرأة كثيرًا في تنظيف البيت، خاصة من الجرذان الكبيرة، وبعد نحو شهرين، اضطرت لبيع قطع من مصاغها الذهبي لتركيب شبك وزجاج، تبعاً لحديثها.
وتزيد بالقول: "أنا مضطرة لخسارة هذا المال، رغم علمي التام أن الزجاج سينكسر مع أول قصف قريب من البيت، أما الشبك الذي اخترته من نوع قوي لم نكن نحتاج لاستخدامه قبل الحرب، فقد أتلفت الجرذان أجزاء منه في محاولاتها لدخول البيت".
أكوام النفايات تنتشر بين خيام النازحين في غزة
حالة عامة
يقول المختص البيئي سعيد العكلوك لمراسلة "آفاق" إن القوارض تنتمي لفئة "نواقل الأمراض"، التي تتشارك فيها مع الحشرات، مثل الذباب والبعوض، كلها تنقل الأمراض وتساعد على انتشارها بين الناس.
ويضيف أن هذه الكائنات تعيش في الأماكن التي تكون النظافة فيها شبه معدومة، ما جعل القطاع مكانًا مناسبًا لنموها بعد اندلاع الحرب، وما أحدثته من أضرار في أنظمة التخلص من النفايات والمياه العادمة.
ويتابع كلامه: "يزيد انتشار القوارض بالقرب من مكبات النفايات، والمياه العادمة التي تنساب في الشوارع بين الخيام والمباني".
ويبين العكلوك أن للقوارض تبعات صعبة على المواطنين، منها نقل الأمراض، كغيرها من النواقل، ففي حال وجود أوبئة فإنها تكون من أبرز عوامل انتشارها، والأسوأ التحول الوحشي في سلوكها، إذ صار ملاحظًا أن بعض الجرذان تعض الأطفال والرّضع في الخيام.
ويلفت إلى أنه في الظروف الطبيعية لم تكن المشكلة واضحة بهذا الشكل لوجود أنظمة مكافحة، إذ كانت البلديات توفر السموم للقوارض والحشرات، ما يحقق سيطرة جيدة على الأمر، بينما لم يكن القطاع يحتاج لمكافحة الطفيليات لتوفر نظام ترحيل منتظم للنفايات، أما حاليًا تتكدّس في الشوارع وهي بيئة خصبة للنواقل.
بلديات قطاع غزة المنهارة والبنية التحية المدمرة تحول دون جمع النفايات والتخلص منها بالطرق الصحية
ويعرب عن أسفه للبون الواسع في المشهد بين الحال الآن وقبل الحرب: "الفرق يكمن في توفر مواد متعددة للمكافحة، حيث كانت البلديات ترّشها في الشوارع لو انتشر البعوض وفي محيط برك المياه، وفي بعض الأحيان كانت توزع السموم المخلوطة بالعلف للمواطنين لمكافحة الحشرات، وكان لهذه الوسائل تأثير مباشر وفعال، أما الآن فالاحتلال يمنع إدخال مواد المكافحة، والمتوفر منها منتهي الصلاحية".
"ماذا لو أصبح الإنسان عرضة للسموم المخصصة للقوارض على نحو متكرر؟"، نسأله فيقول: "يتوقف الأمر على نوع السم وطبيعة سميته، بعضها عالي السمية أثرها تراكمي يظهر بعد عدة سنوات، لكننا الآن لا نتحدث عن هذا الخطر لغياب السموم".
ويؤكد العكلوك: "استمرار مشكلة انتشار القوارض وتفاقمها جزء من حالة عامة أصابت قطاع غزة، نتحدث عن كوارث صحية وبيئية لا تنتهي بانتهاء الحرب، نحتاج عدة عقود للعودة لما كنا عليه، بسبب انهيار البنية التحتية والمنظومة البيئية كاملة".
أكوام النفايات تنتشر في مختلف أنحاء قطاع غزة
من أشكال القتل
بدوره يحذر المهندس عاصم النبيه المتحدث باسم بلدية غزة في حديث مع "آفاق" من أن انتشار القوارض في القطاع بات يهدد حياة المواطنين، نظرًا لمساهمتها في نقل الأمراض.
ويقول: "انتشار القوارض من المشاكل الخطِرة التي لا ينتبه لها الناس، وإحصاءات وزارة الصحة تؤكد ذلك، خاصة فيما يتعلق بالأمراض الجلدية والمعوية".
ويعزو انتشارها إلى أسباب، أولها، تراكم النفايات وعدم التخلص منها بطرق سليمة، ففي مدينة غزة وحدها أكثر من ربع مليون طن، جزء في وسط المدينة، وفي مكبيّ "فراس" و"اليرموك"، وهما لا يستوفيان الشروط الصحية والمهنية للمكبات، مشيرًا إلى أن ارتفاع درجات الحرارة يزيد تواجد القوارض في المكبات.
سبب آخر يتحدث عنه النبيه، يتمثل في التسرب الكبير لمياه الصرف الصحي، في إثر تضرر جميع شبكات الصرف كليًا أو جزئيًا، ما نتج عنه أكثر من 75 ألف متر طولي، في غزة، وأضعاف هذا الرقم على مستوى القطاع.
ويلفت إلى أن بقاء أنقاض المباني المدمرة مكانها يساهم في تفاقم المشكلة، حيث الأعداد الكبيرة من الجثث غير المُنتشلة، وعلاوة على ذلك، تكوّن ترع مياه ووجود حيوانات متحللة تحتها.
"بطبيعة الحال من ضمن مهام البلدية مكافحة القوارض، لكن إمكانياتها حاليًا لا تكفي للأساسيات مثل التخلص من النفايات، والافتقار لمواد المكافحة مثل السموم"، يقولها محبطاً، مضيفًا: "حل هذه المكرهة الصحية يلزمه إدخال الأدوات الثقيلة اللازمة للعمل والسماح لطواقمنا بالوصول للمكب الرئيس شرق المدينة".
كميات هائلة من مياه المجاري تجري بين خيام النازحين في قطاع غزة
ويردف حديثه بقوله: "مثل هذه المشاكل انتهت على مستوى العالم، بينما نحن في القرن الواحد والعشرين ما نزال نناشد العالم للتدخل لحلّها، ونتوجه للمؤسسات المعنية بالبيئة، وللحكومات، لإنقاذ المدينة التي تموت بكل الطرق".
ورغم تكرار المناشدات، كما يقول النبيه، إلا أن التدخلات ضعيفة جدًا، "علماً أن الجهات التي تتدخل تساعدنا على نقل بعض النفايات لمكبات داخل المدينة، وهذا ليس حلاً جذرياً".
وعمّا يمكن للمواطن فعله لحماية نفسه وأسرته، ينصح بالآتي: "الاهتمام بالنظافة في المنطقة المحيطة، والتواصل مع البلدية في حال وجود نفايات متراكمة، وكذلك الاعتماد على السموم والمصائد، وحتى هذه الوسائل مفقودة من الأسواق تقريبًا، وما يتوفر منها يكون بأسعار مرتفعة".
No comments:
Post a Comment