الأراضي المقدسة الخضراء/GHL
أحراش يعبد |
في طفولتي، تعوّدت عيناي، كل صباح ومساء، على رؤية رجل طويل القامة، يلبس بدلة "كاكية"، وعلى كتفه بندقية إنجليزية.
في البداية كنت أخاف منه، فلطالما تحدث أهالينا أمامنا عن الفرسان المرافقين لجالبي الضرائب، لكن سَلامه على جدي عندما يعود من عمله مساء، وترحيبه به أزال الخوف الساكن في أعماقي منه.
كان الرجل يعمل حارسًا للغابات الواقعة غرب بلدتي حلحول، يحرس أحراش وادي القف الذي بات محمية طبيعية يسيطر عليها الاحتلال لأنها تفع ضمن ما يسمى المنطقة (ج)، وأحراش الصفا المحاذية لأرضنا هناك، لم تكن تلك الصورة هي الوحيدة العالقة في ذاكرتي، إنما هناك صورة أخرى لرجال تقلّهم سيارات الجيش الأردني لا يحملون سلاحًا، بل فؤوسًا ومجارف، كانت السيارات تأخذهم، ومنهم عمي، إلى مناطق يزرعونها بالصنوبر والسرو.
كان من تلك الأماكن نحالين وبتير في قضاء بيت لحم، وذلك ضمن الخدمة الإلزامية لما كان يُعرف بــ"الحرس الوطني"، اليوم يلعب صغارنا في أحراش زرعها آباؤنا.
صورة أخرى أشعر دائمًا وأنا أحدّث أبنائي بالفخر بها، وهي تلك الغابة الرابضة على كتف المدخل الشرقي لجامعة بيرزيت، هذه الغابة زرعناها بأيدينا في أيام العمل التطوعي، وما زالت الغابة جميلة، لكن يهددها خطر استمرار الجامعة في التوسع العمراني على حساب أشجارها.
التنوع النباتي والشجري الغني في أحراش أم صفا
مساحات واسعة من الغابات تمتد على أرض فلسطين التاريخية، عنوانها الأول جبال الكرمل، وغابات الجليل الأعلى، حيث يعد المشهد الطبيعي الأجمل في هذه البلاد، لكن جزءًا غير يسير من الشعب الفلسطيني محروم منها، كما أن من يستطيع الوصول إليها يبقى أسير قوانين فرضتها سلطة الاحتلال تحت بند "حماية الطبيعة"، وبات على الفلسطيني أن يخضع لشروط سلطة احتلالية متحكمة بموارده البيئية.
فالغابات في فلسطين قديمة قِدم مطرها وحياتها، وكانت أساسًا من الحراِج الطبيعي كالخروب والبلوط والسريس والبطم والعبهر والقيقب، حتى جاء الاستعمار البريطاني ونظَّم التحريج بقانون عام 1927، قانون حمل في طياته عملية سلب للأراضي وتقديمها للحركة الاستيطانية الصهيونية أو تسهيل استيلاء هذه الحركة عليها.
وإن كنا لا نملك إحصاءات دقيقة حول الحراج في المناطق المحتلة عام 1948، وكم توسّع هذا النشاط مع الكولونيالية الاستيطانية، وبواسطة الــ "كيرن كييمت" ومؤسسات صهيونية أخرى، إلا أننا في هذه المقالة سنركز على الحِراج في الضفة الغربية وقطاع غزة.
غابات فلسطين ومصيرها
تشير الإحصاءات إلى أن ما تبقّى من الحراج الفلسطيني بعد النكبة في الضفة الغربية يبلغ حوالي 2306 دونمات بين عامي 1927 و1950م، إضافة إلى 2500 دونم في قطاع غزة.
استمر نشاط التحريج في الضفة والقطاع حتى احتلالهما، ووصلت مساحة الغابات في الضفة إلى 35351 دونمًا، وفي غزة وصلت إلى 4200 دونم غطت الشريط الساحلي، لكن بعد الاحتلال لم يُجرِ أي توسع يُذكر على المساحات الحرجية في الضفة والقطاع، بل تراجعت هذه المساحات بسبب المصادرة والاستيطان وبناء المعسكرات، وأصدر الاحتلال عددًا من الأوامر العسكرية التي حولّت مساحات واسعة من الغابات إلى محميات طبيعية، عدا عن إغلاق سلطات الاحتلال مشاتل التحريج.
ووصل التراجع في المساحات الحرجية في الضفة إلى 25920 دونمًا، و2000 دونم في قطاع غزة عام 1999، ليبلغ التناقص الكلي في مساحة الغابات المزروعة حوالي 50 ألف دونم.
جبل ابو غنيم قبل الاستيطان وبعده
الحراج في عهد السلطة الفلسطينية
بعد تأسيس السلطة الفلسطينية وفق اتفاق أوسلو، لم تتسع المساحة الحرجية في مناطقها، وأي زيادة في المساحة تمت بمبادرات لجان شعبية بهدف حماية الأرض من المصادرة والاستيطان.
وقد تحدثت خطط الحكومة بعد عام 2008 عن رصد 250 ألف دولار للتشجير الحرجي، ما أدى إلى زيادة طفيفة لم تستطع تعويض المساحة الحرجية التي صادرتها قوات الاحتلال ومستوطناته، فيما لا يزال مشروع "التخضير والتشجير" حبيس أدراج الحكومة، ولم يُنقل إلى حيز التنفيذ، ويعود ذلك إلى أسباب كثيرة أهمها عدم اهتمام الحكومة بالزراعة عمومًا، وبالتحريج خصوصًا، عدا عن أن أغلب الأراضي الحكومية القابلة للتحريج، تقع في المناطق (ج) التي يمنع الاحتلال مباشرة تنفيذ أي مشروع كبير عليها.
سحر الطبيعة في أحراش أم صفا
نحو تحريج مقاوم
في ضوء المعطيات السابقة، نستطيع الجزم بأن لا نشاط حرجي جدّي في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، سواء كان ذلك حكومياً وهو الأهم أم من قبل المؤسسات الأهلية.
وهناك ذرائع كثيرة لدى من يُناط بهم هذه المهمة أهمها شروط الاحتلال وسياساته، ويأتي بعدها ضعف الموازنات وغيرها من الأسباب، ولا يمكن القول إن عدم توفر القوى البشرية أو الأشتال هو من الذرائع.
هنا يبرز السؤال الأكبر: إذا كنا جميعًا ضد الاستيطان والمصادرة والاستيلاء بالقوة على الأرض الفلسطينية، فما هو دورنا لمقاومة هذه السياسة حكوميًا وشعبيًا؟
إن التذرع بالسياسات الاحتلالية باعتبارها عائقًا أمام توسيع التحريج، هو استقالة من مقاومة الاستيطان أولاً، وقبول بالأمر الواقع ثانيًا، وبالتالي فإن توسيع رقعة الغابات الفلسطينية هي مهمة حكومية وشعبية يجب أن تجد إطارًا لتنظيمها على قاعدة تحدي سياسات الاحتلال، وفرض وقائع على الأرض، وهذا يحتاج إلى جهد منظم وواع، يستطيع أن ينقل الشبيبة من واقع عدم المبالاة والارتهان لشروط الحياة الاستهلاكية الى واقع قيمي جديد، وهو ما يفرض إجراءات ترسي تنظيمًا شعبيًا لأجل ذلك.
لافتة احتلالية في أحراش أم صفا كتب عليها أهلا وسهلا في هذا المكان المخصص للطلاب المتدينين في مرحلة ما قبل الخدمة في الجيش الإسرائيلي
وبما أننا أشرنا في مقدمة المقال إلى صورة عن الحرس الوطني ودوره في التحريج، نرى أن الأمر لم يفت بعد، فمع البطالة العالية للشباب الخريجين من المدارس أو الجامعات يمكن فرض واجب الخدمة الوطنية عليهم على الأقل لمدة عام، يقومون فيه بتحريج جزء من الأراضي الجرداء الواسعة في محافظات الضفة كافة على الأقل، إذا سلّمنا بأن مساحة الأرض المزروعة قد تقلّصت إلى حد كبير في قطاع غزة.
ليست الخدمة الوطنية مجرد تدريب عسكري؛ بل يمكن للعمل الطوعي أن يلهم كثيرًا من الشباب على الانخراط في هذه المهمات، حتى لو كان ذلك واجبًا مفروضًا، لكنه يلتقي مع الروح الوطنية المتدفقة لدى أجيال جديدة لم تعهد مثل هذه المشاريع من قبل.
أما التذرع بالمال والموازنات، فإن أقل المشاريع كلفة هي مشاريع التحريج، وهناك تجارب عالمية استطاعت فيها دول، ومنها دولة الاحتلال أن تستجلب أموالًا لهذا الغرض.
إن مشروع "شجرة تحمل اسمك"، وتنقلك إلى وطنك سوف يلقى رواجًا في الشتات، أو "اِزرع شجرة تحمي مترًا" في الوطن، هو مشروع لا يحتاج إلى تمويل خاضع لكل الشروط التعجيزية، فآخر ما يفكر به الممول الدولي هو حماية الأرض من الاستيطان وإعادة ربط الشباب بأرضهم، كما ربطت حركة الاستيطان الكيبوتسي الشباب الصهاينة بأرض مسلوبة من أصحابها.
وادي القف
يتطلب الامر إرادة وطنية أساسها مقاومة المشروع الكولونيالي الاستيطاني، والدفاع عن الأرض وإعادة ربط الأجيال الجديدة بها، وخلق قِيم التعاون والعطاء بين صفوف الشباب الذين نخرت وعيهم كل الدعاوى الفردانية التي عممّتها النيوليبرالية الاستهلاكية.
إن مشروع الخدمة الوطنية هو مشروع تنموي حقيقي، وهو يعزز الاعتماد على الذات والروح الجماعية واحترام البيئة والمحافظة عليها، مشروع يعلّم الشباب كيف نحمي الأرض وشجرها، فكثيرًا ما نمر على غابات طبيعية عاثت بها أيدي لاهين من شبابٍ غرق في عدم المبالاة فاستسهل إحراق الشجر.
عن مجلة افاق البيئة و التنمية
No comments:
Post a Comment