الأراضي المقدسة الخضراء/GHLands
كتب هيثم الشريف: منذ بداية العام، حاول المزارع إبراهيم عودة صبارنة (72 عاماً)، من بلدة بيت أُمّر شمال محافظة الخليل جنوب الضفة الغربية، أن يدخل أرضه ثلاث مرات. وفي كل مرة كانت تطارده دوريات الاحتلال الإسرائيلي وتمنعه من الدخول.
لكن مشكلة إبراهيم لا تنحصر بمنعه من دخول أرضه في واد شخين المحاذي لمستوطنة "كفار عتصيون". "حتى لو تمكنت من ذلك، فلن أستطيع لا القنابة ولا الحراثة ولا فعل أي شيء فيها، لأن مياه المستوطنة العادمة تُغرق معظم أراضي الواد"، يقول إبراهيم .
في المرة الأخيرة التي تمكن فيها من دخول المكان، غارت إطارات الجرّار (التراكتور) في الوحل ولم يتمكن من استخراجه إلا بعد يومين حين جفت الأرض.
"لا تخلو مستعمرة أو بؤرة استعمارية أو رعوية في الضفة الغربية، إن كانت واقعة في مناطق مرتفعة، من المياه الملوثة التي يتم ضخها تجاه أراضي المزارعين الفلسطينيين على نحو ممنهج"، يؤكد الباحث الميداني في مركز أبحاث الأراضي راجح تلاحمة.
ويضاف تخريب المستوطنات لأراضي المزارعين إلى جملة من الاعتداءات اليومية التي يواجهها الفلسطينيون في الضفة الغربية من قبل المستوطنين وبحماية الجيش الإسرائيلي.
فقد سجلت هيئة مقاومة الجدار والاستيطان 7681 اعتداءً في النصف الأول من العام 2024. تعددت بين مصادرة الأرض والتهجير القسري والإعدامات الميدانية وتخريب الأراضي واقتلاع الأشجار.
تخريب الأرض و المعيشة
وكان معهد الأبحاث التطبيقية في القدس (أريج) ومركز أبحاث الأراضي، رصدا إغراق عشرات الدونمات من كروم العنب واللوزيات بالمياه العادمة في واد شخيت، شمال بلدة بيت أمر في محافظة الخليل، على نحو متكرر، مما أدى إلى تدمير الأشجار وخنقها وشلها نتيجة تجمع المياه بكثافة بينها.
"يصل مسطح بعض برك تجميع المياه الملوثة في المستوطنات، كمستوطنة "كفار عتصيون" إلى 6 دونمات"، يقول تلاحمة.
ويؤكد أن أكثر من 50 أسرة فلسطينية تعتاش على قطف العنب من أراضي وادي شخيت. "تُضخ المياه الملوثة الكريهة نحو هذه الأراضي، فتنمو الأعشاب الضارة وتنتشر القوارض والحشرات"، يضيف تلاحمة.
لا يختلف الأمر في قرية سدة الثعلة في مسافر يطا جنوب الخليل، والتي تُغرق أراضيها مياه مستوطنة كرمئيل الملوثة. كما تقوم إحدى مزارع الأبقار في المستوطنة بإلقاء الروث في أراضيهم.
"ما إن تمتلئ بركهم الخاصة بالمياه العادمة حتى يضخوها في أراضينا. لا يمكننا دخول الأرض أو حراثتها"، يقول يوسف مخامرة (40 عاماً).
ويشير إلى أن مساحة الأراضي الزراعية المتضررة، والمزروعة بالقمح والشعير والكرسنّة، تقارب 100 دونم. "حتى الأغنام لا تستطيع أكلها، لأنها باتت متعفنة"، يضيف يوسف.
تُضخّ المياه العادمة في موسم الفلاحة والقطاف
يؤكد مأمون مهنا، رئيس مجلس قرية كفر لاقف، أن ضخ المياه العادمة إلى أراضي المزارعين يتم في مواسم العناية بالتربة والمزروعات وفي مراحل نمو ثمار الزيتون أو موسم قطافها.
تجثم مستوطنة "كرني شمرون" فوق أراضي قرية كفر لاقف في محافظة قلقيلية شمال الضفة الغربية.
"وتقوم مصانعها ومغاسل سياراتها وشاحناتها الضخمة بضخ كميات كبيرة من المياه الكيماوية الملوثة في أراضي مزارعي القرية، والتي تُقدّر بما يزيد عن 20 دونم من الأراضي المزروعة بالزيتون"، يقول مهنا.
يتكرر هذا المشهد كل شهرين أو ثلاثة، بحسب مهنا. في حين تعتاش من فلاحة هذه الأراضي 20 عائلة من قرية كفر لاقف.
من جهته، يؤكد تلاحمة على أنه من خلال المتابعة والتوثيق لوحظ تعمّد إغراق الأراضي بالمياه الملوثة في مواسم العمل.
"ففي بلدة بيت أمر مثلاً، غالباً ما يتم تفريغ مياه المستوطنات في موعد تقليم الأشجار أو قطف ثمارها"، يقول شارحاً.
ماذا يخسر المزارعون؟
"بفعل المياه الملوثة، تنتشر الرائحة الكريهة وتنمو الطحالب في الأرض. تسبب هذه الطحالب شللاً للأشجار"، يقول إبراهيم صبارنة متحسراً.
ويردف: "كنت أجني في كل موسم ما لا يقل عن ألف صندوق عنب. أما اليوم، وقبل منعي من دخول الأرض بشكل نهائي، فبالكاد جنيت عشرة صناديق من العنب بسبب تعفن معظمه".
كذلك يرى مأمون مهنا أن تأثير المواد الكيماوية على الأراضي بالغ الخطورة. "ففي قرية كفر لاقف، باتت بعض الأراضي غير صالحة للزراعة. كما أدى هذا التخريب إلى تراجع كميات الثمار التي يقطفها المزارعون، والتي تنتجها نحو 500 شجرة زيتون"، يقول موضحاً.
وهو ما أشار إليه أيضاً تلاحمه، بقوله: "بفعل إغراق الأراضي بتلك المياه، أصبحت الأراضي الزراعية طينية وعبارة عن برك من المياه".
ويتابع: "لقد أُجبر المزارعون على الانتظار لعدة أسابيع في كل مرة يفرغ المستوطنون مياههم العادمة، حتى تجف الأراضي. هكذا يحرمون من استكمال الاعتناء بمزارعهم، أو قطفها أو الاستفادة منها قبل تعفنها. ثمه أسر لم تقطف ثمارها بالمطلق، فضاع منها الموسم ولم تعاني من تراجع كميات الإنتاج فحسب".
تتشابه الاعتداءات في قرية منيزل جنوب شرقي يطّا في محافظة الخليل. فالقرية محاطة بمستوطنات "سوسية" و"بيت يتير". "منذ العام 2012، يلقي المستوطنون مياههم العادمة في أراضينا. لقد قُتلت المزروعات وأشجار الزيتون وكروم العنب. وخسرت أكثر من عشر عائلات مصادر رزقها"، يؤكد علي رشيد، رئيس مجلس منيزل.
ضرر يطال المواشي والمياه
ليست الأرض فقط ما يتضرر من المياه الملوثة أو الكيماوية. "لقد رصدنا كيف ألحقت المياه الملوثة الضرر بالأغنام والماشية لدى أحد مزراعي سدة الثعلة في مسافر يطا جنوب الخليل"، يقول تلاحمة.
فقد لاحظ يوسف مخامرة بأن الأغنام باتت تتقيأ ما في بطنها، وأخرى تنفق بسبب تناولها للطحالب. "تموت الأغنام لأسباب أخرى أيضاً. ذلك حين يقوم المستوطنون، كما فعلوا قبل نحو شهر، برمي الأغنام النافقة والمريضة قرب ماشيتنا ليلاً، فتنتقل العدوى إلى ماشيتنا"، يوضح يوسف.
ماشية نافقة رماها مستوطنون في أراضي قرية سدة الثعلة (تصوير يوسف مخامرة) |
كذلك، تتأثر آبار المياه التابعة للفلسطينيين. فحسب ما يقوله رئيس مجلس قرية منيزل فإن "مياه الصرف الصحي تمر من وسط القرية، ولا تبعد إلا خمسة أمتار عن شبكة وخزان المياه الذي يغذي القرية. ناهيك بأن ذلك تسبب في ازدياد البعوض والقوارض في القرية".
وقد أثبتت الفحوص المخبرية لعينات مياه أحد آبار بلدة السموع جنوب الخليل، تلوث المياه بسبب انتهاكات المستوطنين. إذ تمت التوصية بعدم استخدامها لأغراض الشرب وسقاية الحيوانات، والتخلص منها وتنظيف الآبار جيداً قبل معاودة الاستخدام.
من يردع المستوطنين؟
لم تقف قرية كفر لاقف مكتوفة الأيدي. "سبق وتواصلنا مع الجهات الرسمية مثل محافظة قلقيلية والارتباط المدني (وهو جهة تنسيقية إسرائيلية في الضفة). إلا أنه لم يتمخض شيء عن هذه الخطوات"، يؤكد مهنا.
أما مركز أبحاث الأراضي، فقد تمكن عام 2022، ومن خلال مشروع حماية البيئة الفلسطينية، من مساءلة سلطات الاحتلال، قانونياً، حول سبب ضخ المياه العادمة في واد شخيت.
"لقد طالبنا بوقف الضرر عن المزارعين. وقد حققنا تقدماً ما. وعليه، فنحن نعمل على تعميم التجربة في شمال الضفة الغربية"، يقول تلاحمة.
وكان المركز، تناول في تقرير له، الاعتداءات الإسرائيلية على الأراضي والمزروعات الفلسطينية بالمياه العادمة من المستعمرات ومصانعها.
فبيّن التقرير أن مساحة الأراضي المتضررة في الضفة الغربية وشرق القدس تقدر بـ2050 دونماً. وأن عدد الأشجار المتضررة حوالى 6600، أكثرها في محافظة نابلس (980 شجرة)، وأن من تلك الأشجار حوالى 3400 شجرة زيتون، أكثرها في القدس (1120 شجرة زيتون).
تبدو هذه الأرقام صادمة حين تُضاف إليها كميات المياه العادمة التي رصدتها سلطة جودة البيئة والجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني.
فقد أشار التقرير إلى أن 50 مستوطنة تتخلّص من 54 مليون متر مكعب سنوياً. تصب هذه المياه في الأراضي والأودية الفلسطينية، فلوثت الأرض والمياه الجوفية وأتت على الزرع ومصادر أرزاق الفلسطينيين.
وهكذا، يقف المزارعون في وجه سياسة ممنهجة وليست مارقة، لا يردعها قانون أو دولة. بل تحميها حكومة إسرائيل وجهاتها الأمنية التي تعطي مستوطنيها خطاً أخضر في انتهاكهم حياة الفلسطينيين.
المصدر : رصيف 22
No comments:
Post a Comment