الأراضي المقدسة الخضراء / GHLands
تتعرض البيئة الطبيعية في قطاع غزة -التي تتميز بتنوع حيوي غني من النباتات والحيوانات البرية- إلى حرب فوسفورية، واستخدام ذخائر غير متفجرة محظورة دولياً، وغازات سامة مكثفة غير مسبوقة في التاريخ العسكري، ما يهدف إلى جعل قطاع غزة منطقة غير قابلة للحياة.
في اليوم العالمي للتنوع الحيوي -الذي أعلنته الأمم المتحدة في 22 أيار/مايو كل عام- يشهد قطاع غزة تسارع وتيرة الدمار الشامل لبيئته الطبيعية، وهو دمار يمتد تأثيره منذ سنوات الاحتلال الطويلة. ووفقاً لتقارير رسمية، فقد ألقى الاحتلال منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر الماضي، 75 ألف طن من المتفجرات على القطاع، بمعدل 500 قنبلة يومياً.
يضم قطاع غزة (شريط ساحلي يتبع إقليم البحر المتوسط) نحو 155 صنفاً نباتياً نادراً، أي ما نسبته 12% من إجمالي الأصناف النباتية، و22 صنفاً نادراً جداً، أي ما نسبته 1.8% من إجمالي الأصناف النباتية، وفق بيان صادر عن الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني وسلطة جودة البيئة بمناسبة اليوم العالمي للبيئة.
سيارة اسعاف مدمرة تابعة للهلال الأحمر الفلسطيني بعد قصفها من طيران الإحتلال | آثار الدمار على مدرسة ايواء في النصيرات جراء قصفها من طيران الإحتلال |
تدمير مكونات التنوع الحيوي
خلّف العدوان الإسرائيلي ملايين الأطنان من النفايات الإنشائية الناتجة عن قصف المنازل والمنشآت. وقال بير لودهامار المسؤول في دائرة الأمم المتحدة للأعمال المتعلقة بالألغام -خلال مؤتمر صحفي في جنيف- إن الحرب خلفت ما يقدر بنحو 37 مليون طن من الركام في المنطقة ذات الكثافة السكانية العالية.
هذه النفايات اختلطت بالنفايات الطبية والمنزلية ومياه الصرف الصحي ومياه الأمطار، ما أدى إلى تلوث مصادر المياه الجوفية والسطحية، إضافة إلى تدمير كافة عناصر التنوع البيولوجي "مكونات الحياة البرية"، بما في ذلك النباتات والكائنات الحية الدقيقة سواء على اليابسة أو في البحر، وتعرضت لأشد أنواع الدمار وإحراق الأرض بكافة تضاريسها، نتيجة استخدام المتفجرات والأسلحة المتنوعة، ما أدى إلى تدمير موائل الحيوانات البرية وقتلها، وحرق كل أشكال الحياة النباتية.
في غضون ذلك، حذر المكتب الإعلامي الحكومي في غزة من "تداعيات صحية وبيئية خطيرة على سكان شمال القطاع، على خلفية التلوث البيئي غير المسبوق الذي خلفه تكدس جبال نفايات، ومئات المقابر الجماعية المؤقتة، وركام المنازل جراء القصف الإسرائيلي، في حين تنتشر مئات آلاف الأطنان من الأنقاض وركام المنازل".
وأدت الحرب الإسرائيلية إلى تحويل جزء كبير من القطاع الساحلي الضيق، الذي يبلغ عدد سكانه 2.3 مليون نسمة، إلى ركام، وأصبح معظم المدنيين بلا مأوى، ويعانون من الجوع وخطر الإصابة بالأمراض.
ما تبقى من إحدى المدارس في مدينة غزة بعد تدميرها من قبل الإحتلال | نزوح العائلات الفلسطينية من دير البلح وسط القطاع بضغط من الإحتلال |
الحرب والطيور المهاجرة
أثرت الحرب الدائرة في قطاع غزة على هجرة الطيور الربيعية والخريفية التي كانت تتخذ من محمية وادي غزة مكاناً للاستراحة في طريقها من الشمال إلى الجنوب والعكس، وأحدثت تغييرات كبيرة في البيئة، الأمر الذي أسفر عن تدمير المواطن الطبيعية والبيئية المهمة، التي تعتبر مراكز تواجد وتغذية واستراحة للطيور أثناء هجرتها الطويلة، كما أن الأصوات العالية الناتجة عن القنابل والتفجيرات والاضطرابات المستمرة جراء الحرب، جعلت هذا الموطن غير ملائم لاستراحة الطيور.
يؤكد الدكتور وليد الباشا، خبير الحياة البرية والمحاضر في كلية الطب بجامعة النجاح الوطنية، على أن اختفاء الطيور المهاجرة بسبب الحرب، يمثل تهديداً خطيراً على التنوع الحيوي في قطاع غزة. وقال لـ "آفاق" إن الطيور المهاجرة تلعب دوراً كبيراً في الأنظمة البيئية، إذ تساعد في نقل بذور النباتات وتعزز تنوع النباتات والحيوانات عبر المناطق المختلفة. اختفاؤها -بنظر الباشا- قد يؤدي إلى تغيرات في توازن الأنظمة البيئية ونقص في التنوع البيولوجي، كما أن اختفاء الطيور المهاجرة يقلل من فرص البحث العلمي في مجال البيولوجيا الحيوية والحفاظ على الطيور، ويقلل من فرص التوعية والتعليم بشأن أهمية حماية التنوع البيولوجي والطيور المهاجرة.
استمرار عمليات النزوح من مختلف المناطق في قطاع غزة نحو المجهول | ما تبقى من وادي غزة بعد عمليات التجريف والتدمير من قبل الدبابات الإسرائيلية |
ووفق الباشا فإن "القنابل والتفجيرات قد تؤدي إلى تلوث البيئة بالمواد الكيميائية الضارة، وتؤثر على المواطن البيولوجية وصحة الطيور المهاجرة، ما يزيد من عبء التلوث البيئي والأثر على الصحة العامة. وبشكل عام، إذا لم يتم حماية الطيور المهاجرة والحفاظ على مساراتها الحيوية، فإن التنوع الحيوي في غزة سيواجه خطراً كبيراً على المدى الطويل".
لوحة مشروع تطوير وادي غزة وتحويله الى محمية طبيعية قبل الحرب على غزة | مجموعة شبابية في زيارة ميدانية الى محمية وادي غزة قبل العدوان على غزة |
التنوع الحيوي في وادي غزة
وادي غزة هو نهاية مجرى مائي طويل يبلغ طوله 77 كم، وينبع من جبال النقب والمرتفعات الغربية لجبال الخليل ويمتد إلى البحر الأبيض المتوسط، ويبلغ طول الوادي داخل القطاع 9 كم. وخلال العدوان على القطاع دمرت أجزاء كبيره من الوادي، الذي أُعلن عنه محمية طبيعية عام 1994.
وتحول الوادي اليوم -بفعل الأسلحة المدمرة والحارقة- إلى مقبرة جماعية لكل أشكال الحياة من بشر ونبات وحيوان، ما أدى إلى تدمير أحد أهم مسارات هجرة الطيور العالمية في مختلف فصول السنة. وكانت ملايين الطيور المهاجرة تستريح للتزود بالغذاء وأحياناً تتكاثر في أراضي غزة وبين أشجارها، وتحديداً في منطقة وادي غزة. وأظهرت الآثار الفورية للعدوان تغيراً في سلوك الكثير من الحيوانات البرية الناجية من الموت، وتحدثت تقارير عدة عن حيوانات تهاجم جثث الشهداء نظراً لشدة جوعها وعطشها، ما يشكل تحولاً خطيراً في سلوكها.
محمية وادي غزة قبل الحرب على قطاع غزة | وادي غزة الذي كان يجذب الطيور البرية قبل العدوان الإسرائيلي على غزة |
من جانبه، يقول المحاضر الأكاديمي وخبير الحياة البرية عماد دواس: "يعتبر وادي غزة أحد أطول الوديان في فلسطين وأغناها من الناحية التراثية والبيئية، فهو منطقة انتقالية بين البحر المتوسط والصحراء، ويشكل زاوية الجسر البري الذي يربط بين قارات أفريقيا وأوروبا وآسيا، وقد انعكس ذلك على التنوع الحيوي والنباتي على ضفتي الوادي، فعند التقاء الوادي بالبحر تتشكل برك تجذب الطيور المائية المهاجرة".
ويضيف دواس لـ "آفاق" أنه تم التخطيط لتحويل ضفاف الوادي إلى منطقة سياحة بيئية من الدرجة الأولى، وإنشاء متاحف ومتنزهات ومساحات خضراء، وتطوير مرافق ترفيهية وأندية رياضية، ومطاعم، وتخصيص مناطق للمشي وممارسة الرياضة، ومناطق طبيعية لاحتضان الطيور والحيوانات البرية.
ويختم دواس الذي أعد تقريراً قبل الحرب عن وادي غزة: "تم تدمير كل مظاهر الحياة في الوادي ومحيطه، وتحولت المنطقة إلى بركة للصرف الصحي، والقضاء على الغطاء النباتي، كما تم تدمير وتجريف المواقع الأثرية".
صورة جوية تظهر وادي غزة قبل الحرب - المصدر كما هو وارد في الصورة | جولات بيئية شبابية لمحمية وادي غزة قبل الحرب |
الأضرار المؤقتة في قطاع غزة
حسب تقرير تقييم الأضرار المؤقتة الصادر في آذار/مارس الماضي عن البنك الدولي والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة، قدَّرت قيمة الأضرار البيئية بـ 411 مليون دولار، ما يؤثر سلباً على الأصول المادية مثل المناطق الساحلية والمياه والتربة وحقول الزراعة واحتياطي وادي غزة الطبيعي، بالإضافة إلى الخدمات البيئية الحيوية. وتشمل المجالات الرئيسية للأضرار تلوث المياه الجوفية، والتلوث الناتج عن النفايات الخطرة، بما في ذلك الذخائر غير المتفجرة والنفايات الطبية والتلوث الصناعي، وتدمير المناطق الساحلية (مثل ميناء غزة)، والأضرار التي لحقت بالبيئة البحرية، وتدمير قوارب الصيد والمعدات.
وفقاً للبنك الدولي "تم تدمير أكثر من 25% من وادي غزة، وهي منطقة رطبة، ومعها الخدمات البيئية التي كانت توفرها. الذخائر والمواد الكيميائية تلوث التربة والهواء والمياه بشكل كبير، مع تداعيات على الصحة البشرية والزراعة وسلامة الغذاء. كما أنها تلوث موارد المياه النادرة في قطاع غزة، التي أصبحت غير مناسبة للاستهلاك البشري بشكل كبير حتى قبل النزاع".
مياه الصرف الصحي بين انقاض المباني المدمرة خلال الحرب | تراكم النفايات الصلبة حول خيام النازحين في غزة |
تأثيرات مستقبلية
طالت الآثار السلبية للحرب التنوع البيولوجي المتمثل في النباتات والحيوانات والكائنات الدقيقة، ما قد يؤدي مستقبلاً إلى عرقلة قدرتها على التكاثر أو إصابتها بطفرات وتشوهات نتيجة للتلوث بجميع أشكاله.
التوأم لارا وماندي سرداح اعتادتا قبل الحرب، توثيق الحياة البرية النباتية والحيوانية منذ أكثر من 8 أعوام، مثل تسجيل العديد من الحيوانات والطيور النادرة كالثعلب الأحمر، وآكل المحار، وطائر السُّبَد الأوروبي.
وتقول ماندي: "الحرب لها تأثيرات سلبية على البيئة، وأدت إلى تدمير الموائل الطبيعية، ما تسبب في فقدان البيئة التي تعتمد عليها العديد من الأنواع الحيوانية والنباتية، مثل وادي غزة والمناطق الرطبة في المواصي، وتعرضت الأراضي الزراعية للتدمير والضرر البالغ بما في ذلك النباتات والحيوانات".
وتختم ماندي حديثها لـ "آفاق" بالقول: "الحيوانات قد تهرب من مناطق القصف، ما يؤدي إلى انخفاض أعدادها في موائلها الطبيعية، كما أن فقدان المأوى والغذاء يؤديان إلى انخفاض القدرة على التكاثر والنجاة، ما يهدد بقاء الأنواع الحيوانية على المدى الطويل، إضافة إلى أن تراكم ركام وحطام المباني والمنشآت من شأنها إعاقة نمو النباتات ومنع الحيوانات من العثور على مأوى وطعام".
صعوبة التنقل بين انقاض المباني والشوارع الغرقى بمياه الصرف الصحي | اطنان من النفايات الصلبة المتراكمة في كافة محافظات غزة |
الدمار الهائل في خانيونس جراء العدوان الإسرائيلي المتواصل على غزة | يفوق عمره 1500 عام غارات الاحتلال تدمر سوق قيسارية التاريخي للذهب وسط غزة |
جيش الاحتلال يقوم بتدمير وسحق أبراج غزة التي تعتبر من معالم المدينة الحضرية | طيران الاحتلال يقصف عمارة فلوديا في شارع الشهداء بمدينة غزة |
من مكان المجزرة الاسرائيلية في خانيونس | نباتات وطيور محمية وادي غزة قبل الحرب – تصوير ماندي ولارا سرداح |
طائر الكروان في محمية وادي غزة - تصوير ماندي ولارا سرداح | طائر القبرة المتوجة في محمية وادي غزة - تصوير ماندي ولارا سرداح |
أطفال ونساء يتحلقون حول فرن طيني في خيمة نزوح في غزة | الأحزمة النارية المتواصلة من الطيران الحربي الإسرائيلي على مدينة غزة |
عن مجلة آفاق البيئة و التنمية https://www.maan-ctr.org/magazine/article/4337/
No comments:
Post a Comment