نحو بيئة نظيفة وجميلة

test

أحدث المقالات

Post Top Ad

Your Ad Spot

Friday, May 9, 2025

بين السلاح والخِراف اجتياح استيطاني يرعى على أنقاض حياة الفلسطينيين في الأغوار

 الأراضي المقدسة الخضراء / GHLands


تقرير خاص لمجلة آفاق البيئة و التنمية 

في سهول الأغوار الشمالية، حيث تمتد الأراضي الزراعية كأنها مرايا خضراء، معبّقة برائحة القمح والشعير، تدور معركة غير متكافئة بين المزارع الفلسطيني الذي يبحث عن قوته ومصدر دخله، ومستوطنين مدّججين بالسلاح وبعقلية السيطرة والاستحواذ.

اعتداءات ممنهجة تتخذ شكل "استيطان رعوي"، يمضي بخطى متسارعة لتجريد أصحاب الأرض من حقهم في أرزاقهم ومراعيهم.

والاستيطان الرعوي، هو وجه جديد من وجوه التوسع الاستيطاني في الأغوار، يهدف إلى فرض أمر واقع لطرد الفلسطيني من أرضه، بالتضييق والنهب الممنهج.

قبل أسابيع، وفي فجرٍ بارد من أحد أيام شباط، كان الحاج ياسر أبو عرام، يلّف جسده المتعب بعباءة من صبر، ويقود قطيعه المتناثر في وادي الفاو بالأغوار الشمالية، فهاجم المستوطنون ياسر في أرضه، لم تكن هذه المرة الأولى، لكنها كانت الأقسى، تحت تهديد السلاح وبحماية جيش الاحتلال، أُجبر على الرحيل قسرًا.

"كأنهم سرقوا سنين عمري كلها بلحظة واحدة"، قالها الحاج ياسر وهو يشير إلى أرض قاحلة في منطقة "الرأس الأحمر"، حيث استأجر أرضًا لشهرين، ظنًا منه أن الأمن قد يسكن هذه الرقعة من الوطن، بعد أن هُجّر قسرًا من وادي الفاو، لكنه كان مخطئًا فقوات الاحتلال لاحقته أيضًا إلى الرأس الأحمر.

لم تمضِ أيامٌ قليلة حتى تبعته قوات الاحتلال إلى "الرأس الأحمر". هذه المرة لم يأتوا فقط للهدم، بل جاؤوا ليطفئوا ما تبّقى من أنفاس في صدره، هدموا خيمته الجديدة، وصادروا معداته مجددًا، من مولدات كهربائية وألواح شمسية، وحتى الخيام التي لم تُفتح بعد، ولم يتركوا له حتى خزان المياه الذي كان يسقي به أغنامه، حملوه على الشاحنات ومضوا، كل شيء قدّر قيمته أبو عرام بنحو 100 ألف دينار أردني، تلاشى أمام ناظريه.

أنا أعيش في ظلام.. لا كهرباء، لا ماء، لا شيء غير الخوف"، يقول الرجل الذي يعيش حياة بدائية، بعينين مثقلتين بالخذلان، بينما ينادي كل من يملك ضميرًا أو قرارًا: "أنقذوا مربيّ الثروة الحيوانية، أنقذوا حياتنا، نحن لا نحمل السلاح، نحمل اللبن والخراف والكرامة".

قصة هذا الرجل وعائلته المكونة من 35 فردًا، ليست استثناء، بل هي العنوان العريض لسياسة مستمرة تهدف لتفريغ الأغوار من سكانها، تمهيدًا لضمها الاستيطاني كاملة، ضمن ما يُعرف بــ"الاستيطان الرعوي" الذي يتخذ من الرعاة المستوطنين ذرائع هجومية على المزارعين الفلسطينيين، بحماية من جيش الاحتلال.

ووفقًا لإحصاءات مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية التابع للأمم المتحدة (OCHA)، فقد سُجّل أكثر من 130 حالة تهجير قسري في الأغوار عام 2024، نتيجةً لسياسات الاحتلال والمستوطنين، خاصة في مناطق "ج" الخاضعة للسيطرة الإدارية والأمنية الإسرائيلية.

يقول أبو عرّام: "لم نعد نعرف طعم الأمان، منذ إحكام الطوق علينا من الجانبين، حيث أقام الاحتلال مستوطنتين رعويتين استوطنتا الشرق والغرب من تجمعنا السكني، وجعلنا في مرمى الاستهداف اليومي".

ويعطينا الخلاصة الموجعة: "حياتنا صارت جحيم، ما خلّوا وسيلة إلا استخدموها حتى نرحل، ما بين تخويف وضرب وسرقة وتسميم مياه، ومصادرة أراضينا".


الاحتلال يصادر معدات ياسر أبو عرام من الراس الاحمر

ممارسات ممنهجة ضد مربيّ الثروة الحيوانية

من جانبه، يقول د. أحمد الفارس مدير عام زراعة محافظة طوباس والأغوار الشمالية: "هذه الممارسات ليست عابرة، فهم لا يريدوننا أن نرعى أغنامنا على أراضينا، هم يعلمون أن ذلك يزيد أعبائنا من تكاليف الإنتاج والتربية، وكلما حُرمنا من المراعي، اُضطررنا إلى شراء الأعلاف بأسعار باهظة، والأطنان من الأعلاف ارتفعت أسعارها ارتفاعاً جنونيًا، وهذه بمثابة كارثة لمربيّ الثروة الحيوانية".

ويضيف الفارس: "المستوطنون الذين أصبحوا يملكون قطعانًا ضخمة من الأغنام والأبقار، وسعّوا نشاطهم كثيراً، فبعد أن كانوا يتوغلون في أعالي الجبال، باتوا اليوم يزاحمون الفلسطيني في قلب السهول، بل ويقتحمون محيط المنازل، غير آبهين بوجود العائلات، فنحن لم نعد نتحدث عن مضايقات، بل حملة تهجير ممنهجة".

ويوضح: "المزارع الفلسطيني المالك لقطعة أرض مساحتها عشرة دونمات، مزروعة بالقمح أو الشعير، وينتظر موسم الحصاد، يُفاجأ بالمستوطن يطرده من أرضه، ثم يسرح أغنامه هو فيها، فالذي تعبنا عليه، يُنهب في لحظات، بلا خوف ولا رادع".

من جهتها، تحاول وزارة الزراعة الفلسطينية، الصمود عبر تقديم مشاريع دعم للمزارعين في هذه المناطق المهمشة والمستهدفة، لكنها تؤكد أن بقاء المزارع مرهون بإيقاف هذه الاعتداءات، فكل مشروع لا يصمد أمام عنف المستوطنين لن يثمر سوى اليأس، وقطعة أرض تُضاف إلى خريطة التهام الأراضي.

ولا يواجه مُربّو الثروة الحيوانية في الأغوار الشمالية مصادرة الأرض والمراعي فقط، بل هم عرضة لاعتداءات جسدية مباشرة من المستوطنين تهدد أمنهم وحياتهم.

 ويذكر الفارس في هذا الصدد: "سُجّل اعتداء على أحد المزارعين في الفترة الماضية، وقد ضُرب حتى كُسرت أسنانه، ونُقل إلى المستشفى. وهناك عشرات القصص المشابهة تحدث يوميًا".


احفاد ابو عرام بعد ان صادر الاحتلال خيمهم في الراس الاحمر

ويشير الفارس إلى أن هذه الاعتداءات تتم تحت حماية جيش الاحتلال، الأمر الذي يضاعف معاناة المزارعين، ويشكّل عائقًا كبيرًا أمام استمرارهم في مهنتهم، كما تؤدي إلى خسائر متكررة للمزارع، تدفعه في النهاية إلى بيع أغنامه وتقليص نشاطه، ما يفسر الانخفاض المتسارع في أعداد الثروة الحيوانية، وهو من أخطر نتائج الاستيطان الرعوي، حسب رأيه.

ويشدد في كلامه على أن "مزارعينا هم حماة الأرض الحقيقيين، ويستحقون كل الدعم، والوزارة توجه المشاريع لهذه المناطق لتعزيز صمودهم، لكن ما تقدمه يبقى دون مستوى التضحيات التي يقدمونها".


حفيد ابو عرام بعد ان صادر الاحتلال خيمهم في الراس الاحمر

الهجمة على المزارعين تتصاعد

وفي السياق نفسه، يلفت مدير عام زراعة محافظة طوباس والأغوار الشمالية، إلى أن الهجمة على المزارعين في الأغوار الشمالية شهدت تصاعدًا ملحوظًا في الآونة الأخيرة، حيث تزايدت الانتهاكات والإجراءات التي تعرقل حياة المواطنين وتمنعهم من الوصول إلى أراضيهم.

وأوضح الفارس أن حاجز تياسير، الذي يفصل مدينة طوباس عن الأغوار الشمالية، مغلق منذ أكثر من شهرين، ما تسبّب في عزل المنطقة عزلاً شبه كامل، وبالتالي المزارعون لم يعودوا قادرين على الوصول إلى أراضيهم، ويضطرون إلى الالتفاف من طوباس باتجاه حاجز الحمراء، في رحلة شاقة تستغرق ساعات.

ولا يكتفي الاحتلال بإغلاق الطرق، تبعاً لحديثه، بل يستمر في مصادرة الأراضي الزراعية، مقدرًا قيمة الأراضي المُصادرة في الفترة الأخيرة بملايين الشواكل، ما يمثل ضربة قاسية للمزارعين، تعمّق الأزمة الاقتصادية التي يعيشها القطاع الزراعي في المنطقة.

ويحذر الفارس مما يسعى إليه الاحتلال من إفراغ للأغوار الشمالية من سكانها الأصليين، عبر استهداف ممنهج للمزارع الفلسطيني، لتبقى المنطقة مفتوحة أمام التوسع الاستيطاني والاستغلال الاقتصادي.

ويضيف بأن قوات الاحتلال صادرت مركبتين تابعتين لمديرية الزراعة، إلى جانب عشرات الجرارات والمعدات الزراعية الخاصة بالمزارعين، تحت ذرائع أمنية واهية.

ويواصل كلامه: "في أكثر من سنة ونصف، شهدت محافظة طوباس عمليات مصادرة متكررة، بذريعة الدخول إلى ما يسمونه مناطق عسكرية مغلقة".

وإضافة إلى ما سبق، يمنع الاحتلال المزارعين من حراثة أراضيهم أو إدخال المعدات إليها، بذريعة أنها تقع ضمن مناطق "ممنوعة" أو "محميات طبيعية".

معقباً: "هذه المزاعم تخفي خلفها أهدافًا اقتصادية بحتة، الاحتلال يختبئ وراء شعارات مثل المنطقة العسكرية أو المحمية الطبيعية، لكن الحقيقة أنه يسعى حثيثاً للهيمنة على الأغوار من منظور اقتصادي واستيطاني".

وفيما يتعلق بتأثير الاستيطان الرعوي على الثروة الحيوانية، أشار الفارس إلى أن أعداد رؤوس الأغنام في الأغوار الشمالية سجلت تراجعًا حادًا في السنوات الأخيرة، مبيناً: "كانت أعداد الأغنام في المنطقة تُقدر بنحو 80 ألف رأس، أما اليوم فلا أعتقد أنها تتجاوز 50 ألفًا"، مفسراً هذا الانخفاض، بسبب سياسات الاحتلال والمضايقات المستمرة بحق المزارعين ومربيّ المواشي.


مصادرة قوات الاحتلال لمعدات أبو عرام في الراس الاحمر بالاغوار الشمالية

المستوطنون يستبيحون المراعي

بدوره، يقول مهدي دراغمة رئيس مجلس قروي المالح والمضارب البدوية: "إن التجمعات البدوية في الأغوار الشمالية تعيش اليوم في سجن، دون مبالغة، بسبب الاستيطان الرعوي الذي صادر معظم الأراضي الرعوية والزراعية لصالح المستوطنين".

ويوضح دراغمة أن الفلسطينيين باتوا ممنوعين من الوصول إلى أراضيهم حتى تلك القريبة من مساكنهم، مشيرًا إلى أن الأراضي الزراعية البعلية، التي كانت مصدر رزق لمربيّ الثروة الحيوانية، أصبحت مستباحة كاملةً للمستوطنين، الذين يطلقون فيها أبقارهم وأغنامهم دون حسيب أو رقيب.

ويعرب عن أسفه بقوله: "بعض المزارعين يمتلكون أراضٍ تبعد عن منازلهم أمتاراً قليلة، لكنهم يُمنعون من الوصول إليها، بينما يُسمح للمستوطنين بالرعي فيها بحرية".

ومرة أخرى يعيدها: "الفلسطيني يعيش في سجن، حتى داخل خيمته ممنوع أن يتحرك ولو بضعة أمتار عنها، نحن في الأغوار سجناء، ليس لنا الحق في زراعة أرضنا أو رعي مواشينا".

ويضيف دراغمة: "التمييز واضح وصارخ، إذ في حال اقتراب أغنام أحد المواطنين الفلسطينيين من الأرض، يتدخل جيش الاحتلال والشرطة لطرده منها، فيما لا يحرك ساكنًا حين يكون المعتدي مستوطنًا".

ويؤكد أن أغلب الأراضي الزراعية في المنطقة صُودرت وأصبحت مسرحًا لرعي المستوطنين، الأمر الذي دمر مقومات بقاء المزارعين.


ياسر ابو عرام خلال رحيله من منطقة وادالفاو

الثروة الحيوانية في مرحلة احتضار

ويلفت دراغمة إلى أن الثروة الحيوانية في المنطقة تعيش اليوم ما يشبه "مرحلة الاحتضار"، جراء المنع من الرعي وانتشار الأمراض، بسبب الحبس القسري للمواشي وارتفاع تكلفة الأعلاف.

يقول: "اعتماد المزارعين على الأعلاف المكلفة بدلًا من المراعي الطبيعية، يهدد حقاً استمرار تربية المواشي، التي كانت تشكل العمود الفقري للاقتصاد المحلي، فيما أضحت حياة المزارعين في خطر محدق بسبب اعتداءات المستوطنين اليومية بحقهم في الأغوار الشمالية".

وبات الأهالي لا ينامون ليلاً خشية اقتحام المستوطنين الذين ينفذون اعتداءاتهم، تحت حماية مباشرة من جيش الاحتلال وشرطته.

وحسبما يذكر، استولى المستوطنون على مصادر المياه كاملةً في المنطقة، ما دفع المواطنين للاعتماد على صهاريج نقل المياه من قرى مجاورة مثل عين البيضاء وبردلة، وهي مسافات طويلة ومرهقة، حيث الحواجز العسكرية تحولت إلى أدوات إذلال وتعذيب يومي، مثل حاجزي تياسير والحمراء.


ياسر ابو عرام

50 عائلة باعت أغنامها وغادرت المنطقة

"الظروف القاسية دفعت خمسين عائلة في الأشهر الأخيرة إلى بيع أغنامها ومغادرة المنطقة، مع استمرار التهديدات والاعتداءات" يخبرنا رئيس مجلس قروي المالح والمضارب البدوية

ويضيف دراغمة: "يهاجم المستوطنون الحظائر ويسرقون الأغنام والأبقار أحيانًا، ويطلقون النار أو يحاولون قتل المواشي، وهم دائمًا مسلحون أو مدعومون بقوة من جيش الاحتلال".

وأكد أن المستوطنين لا يتصرفون عشوائيًا، بل ينفذون سياسة حكومة اليمين الإسرائيلي المتطرفة.

ووفقاً لدراغمة، فإن أعداد مربيّ الثروة الحيوانية شهدت انهياراً حادًا في العقدين الأخيرين، ففي أواخر التسعينيات، كان عدد رؤوس الأغنام في الأغوار الشمالية يبلغ 160 ألف رأس، أما اليوم فلا يتجاوز 18 ألف رأس، وهذا الرقم يعكس حجم الاستهداف الممنهج للوجود الفلسطيني، مشيرًا إلى أن العائلات تواصل النزوح يوميًا، بسبب ما وصفه بـ"الرعب اليومي" الذي يحوّل حياة الناس إلى كابوس دائم.

وتشير معطيات "هيئة مقاومة الجدار والاستيطان" إلى أن 29 تجمعًا فلسطينيًا في الضفة الغربية هُجّر منذ أكتوبر 2023 حتى الآن.

أما أبو عرام، فهو واحد من مئات الرعاة الذين لم يعودوا يملكون خيمة، أو ظلاً، أو حتى صوتًا في هذا العالم المزدحم بالصمت.

لكن رغم كل شيء، ما تزال في عينيه جمرة من تحدٍ تقول: "لو ضل معاي خروف واحد، راح أضل بهالأرض".

No comments:

Post a Comment

بين السلاح والخِراف اجتياح استيطاني يرعى على أنقاض حياة الفلسطينيين في الأغوار

 الأراضي المقدسة الخضراء / GHLands تقرير خاص لمجلة آفاق البيئة و التنمية  في سهول الأغوار الشمالية، حيث تمتد الأراضي الزراعية كأنها مرايا خض...

Post Top Ad

Your Ad Spot

???????