الأراضي المقدسة الخضراء / GHLands
بينما تفرض إسرائيل عزلة خانقة على الفلسطينيين في قطاع غزة، وتحرمهم أبسط حقوقهم الإنسانية، عبر القصف والتدمير والحصار المشدد، مستخدمةً التجويع سلاحًا من أجل تقويض مقومات الحياة وإجبارهم على الهجرة القسرية، برزت مبادرات فردية ناجحة في توفير الغذاء لعوائلهم-ولو بالقليل- عبر الزراعة اليدوية وتربية الطيور والحيوانات، بين الخيام أو على أنقاض المنازل المتضررة.
فحرب الاحتلال المدمرة على غزة قضت على الزراعة بشكلٍ ممنهج، ولم يتبقَّ سوى 4.6% من أراضي القطاع صالحة للزراعة، وفق تحليل أجرته منظمة "الأغذية والزراعة" التابعة للأمم المتحدة "فاو" في مارس/ آذار الماضي.
فيما بلغت خسائر الثروة الحيوانية ما يزيد عن 96% من الماشية والدواجن، وفي الوقت نفسه يرفض الاحتلال دخول مختلف الإمدادات الغذائية إلى غزة؛ لينعكس ذلك سلبًا وبشكل متسارع على أكثر من مليوني مواطن، من خلال خلوّ الأسواق من أي شيء يأكلونه، بينما وصلت أسعار الأصناف المتوفرة إلى مستويات خيالية.
وأمام هذه الأزمة الخانقة، لجأ مئات المواطنين إلى البحث عن مصادر ذاتية للغذاء، لعلهم يخمدون بها أصوات الجوع من بطون أبنائهم.
![]() |
إبراهيم أبو جبل يعتني بمزروعاته وسط الدمار- تصوير محمد أبو القمصان |
فهذا إبراهيم أبو جبل (39 عامًا) النازح من شمال قطاع غزة لمنطقة السرايا وسط مدينة غزة، لم يعدم فرصة؛ لإنقاذ عائلته المكوّنة من تسعة أفراد، بسدّ رمقهم ولو بالقليل من الخضروات، في ظل المجاعة القاسية.
يشعر بالأمل وبدافعٍ إصرار خفي لمواصلة الحياة، كلّما رأت عيناه أوراقًا خضراء تنمو وسط هذا الدمار الهائل وظروف العيش الصعبة، كما أنّه يؤمن بأنّ مقاومة المجاعة لن يكون إلا بالاعتماد على الذات. والزراعة اليدوية أولى الخطوات وأهمها.
لذا ومنذ المرة الأولى التي أُجبر فيها على النزوح القسري من منزله، أخذ على عاتقه أن يستمر في المحاولات بزراعة الخضروات أينما نصب خيمته، بما يضمن لعائلته، ولو "طبق سلطة" في اليوم يسد جوعهم.
"مقومات حياة تعيشك لبكرا"، بهذه الكلمات يقدم أبو جبل دافعه للزراعة وسط خيام النزوح، قائلًا لمراسلتنا، إنّه "مع كل موجة نزوح وقبل نصب الخيمة، يبدأ بتجهيز الأحواض حولها وزراعتها من أبسط الإمكانات وبطرق بدائية بسيطة".
في نزوحه الأخير قبل خمسة شهور، استثمر ضيفنا قرابة 70 مترا مربعا حول خيمته في أرض السرايا، وحضّرها قبل أن يُباشر بزراعة عدة أشتال مثل الملوخية، والبطاطا، الطماطم، والبانجان والخيار، والفلفل الأخضر والذرة، وبعض النباتات الورقية كالجرجير والبقدونس.
هل من السهل توفير البذور في ظل الظروف الراهنة؟ بالتأكيد لا فهي مفقودة بالأسواق غالبًا، فيما يرتفع سعر المتوفر منها بما لا يُمكّنه من الحصول عليها، لكنّ ذلك لم يقف عائقًا أمام هذا الرجل المكافح.
إذ يضطر لتجفيف بعض أنواع الخضروات الناضجة، ليتمكن من توفير البذور وزراعتها، وهي بحسب ما وصفها "طرق بدائية اعتاد عليها أجدادنا، وتجاوزناها منذ زمن بعيد، وها نحن نعود إليها مرغمين".
ولضيق المساحة المتاحة للزراعة أمام خيمته، يعيد أبو جبل، تدوير معلّبات المساعدات الفارغة، بزراعة البذور والأشتال، وهو ما يُساعده أيضًا على التنقل بها من مكان لآخر.
ليس هذا فحسب، بل يزرع أنواعًا مختلفة من الزهور والصبّار، لمسح بعض المأساة عن وجه الخيمة وقلوب ساكنيها المثقلة بالمعاناة والهموم، حيث يحكي بنبرةً صافية بسيطة: "استطعت تبديل المشهد اليومي القاتم الذي نعيشه منذ 21 شهرًا، بألوان زاهية".
أما مشكلة المياه الماثلة أمام كل غزيّ بعد تدميرَ الاحتلال مصادر وشبكات المياه في القطاع، يتجاوزها أبو جبل بحمل دِلاء الماء من مسافات بعيدة لري المزروعات يوميًا، فيما يقف تناقص الأسمدة اللازمة، كعائق أساسي أمام توسيع تجربته وتطويرها، لأنّ حرمان النباتات منها يؤخر نضوج الثمار.
![]() | ![]() |
أدهم بدر حاملًا أنواعًا من الدجاج في غزة | دجاجة غزية يظهر عليها ضعف النمو |
تجربة مزدوجة..
دفع التفكير في مصير ثروة غزة الحيوانية خلال الحرب، المواطن علاء زهد إلى البحث بجدية عن طرق يُساهم من خلالها بالحفاظ على السلالة الحيوانية، فلمعت في ذهنه، تربية الأرانب.
زهد وهو أبّ لـ 5 أبناء لم يكن حديث عهدٍ في تربية الحيوانات، حيث استثمر منذ سنوات سطح منزله في حيّ النصر غربي مدينة غزة، فحوله إلى حديقة غنّاء تضم غرفةً للدواجن، ومثلها للأرانب والحمام، فيما زرع المساحة المتبقية بمزروعات متنوعة، كان يحقق منها اكتفاءً ذاتيًا من الخضروات والبيض واللحوم البيضاء.
لكّن آلة التهجير الإسرائيلية أجبرته، في الأيام الأولى للحرب، على ترك منزله بعدما أفرغه من مخزونه الحيواني والزراعي، ليبدأ الفكرة مجددًا بعد نحو شهرين من اندلاعها. يقول: "الناس كانت تندفع لبيع ما لديها من دواجن وحيوانات، دون التفكير في آلية لاستمرار عجلة الإنتاج المحلي ولو بالقليل".
![]() |
الزراعة البدائية في غزة - مريم أبو دقة |
في البيت الذي استأجره لعائلته في مدينة دير البلح وسط قطاع غزة، خصص غرفةً لتربية خمسة أرانب وهيأ ظروفها بما يضمن نجاح هدفه بالحفاظ على السلالة بحيث لو انتهت الحرب ينطلق منها لاستمرارية دورة الإنتاج.
اعتقد علاء، لو أن الظروف طبيعية، فإنّ الـ 15 كلغ من العلف الخاص بالأرانب التي استطاع توفيرها في بداية المشروع، مع ما يخلطه من دقيق وقمح وشعير، ومعلبات الفاصولياء، ستُساعد في عملية التكاثر والإنتاج، لكن الواقع الآن على العكس تمامًا!
يوضح، أنّه بعد نجاح عملية التزاوج، بدأت الأرانب بالتكاثر، وذابت المخاوف التي أثارها بعض التجّار في نفسه وتتمثل في أن "غياب الغذاء الخاص بالأرانب، يُفشل أي محاولات للإنتاج"، مستدركًا: "ثم اصطدمت بأن الأمهات لا يتوفر لديها حليب لإرضاع صغارها".
كذلك، كان من المفترض أن يصل وزن الأرنب الصغير خلال أول شهرين 2 كلغ، غير أنّه لم يتجاوز الـ 250 غرامًا بعد 6 أشهر على ميلادها. وفق ما تحدث به علاء الذي بدأ يواجه فشل التجربة، أعطى فرصة أخيرة لمحاولته، بعد نصيحة قدمها طبيب بيطري، بخلط بعض الفيتامينات بغذاء الأرانب.
إذن، كل الجهود المبذولة كانت تصطدم بتبعات الحصار الخانق المفروض إسرائيليًا على القطاع بتواطؤ دولي وصمت عربي مريب، ليُعلن علاء استسلامه أخيرًا، مبينًا أنّ إنتاج الأرانب على مدار 7 شهور كان من المفترض أن يصل لـ 400 أرنب بمتوسط شهري 6 أرانب لكل أرنب من الأمهات، غير أنّه في الواقع لم يحصل سوى على 12 أرنبًا بنمو غير طبيعي.
ورغم أنّ القطاع لم يشهد إلا انفراجة بسيطة خلال فترة تهدئة لم تدم طويلًا، انتهت بإغلاق تام للمعابر مطلع مارس/ أذار الفائت، غير أنّ علاء عند عودته إلى حيّه، بحث مجددًا عن أرانب لتربيتها لكنه لم يجد سلالتها في مدينة غزة، فكّرس جهده لإعمار سطح منزله بالزراعة المنزلية.
وها هو الآن يحصد بعض ثمار الفلفل واليقطين والطماطم، والقرع، والنباتات الورقية، ليسد فيها رمق عائلته، في ظل تفشي المجاعة، مشددًا على ضرورة أن "تُصبح الزراعة تربية منزلية، وثقافة سائدة عند الغزيين، كي لا يتحكم أحد في أرواحنا بعد اليوم".
![]() | ![]() |
الزراعة الغزية بين الخيام | الزراعة بين خيام النازحين |
اكتفاء من البيض..
في تجربة فردية أخرى، حقق المواطن أدهم بدر (31 عامًا) اكتفاءً ذاتيا من البيض لأطفاله الثلاثة، وهو ما اعتبره إنجازًا كبيرًا؛ في ظل ما تشهده غزة من نقص حاد في مصادر البروتين الحيواني نتيجة الحصار.
ورغم كثرة المعيقات التي تعترض مشروعه في تربية الدواجن داخل أنقاض منزله المدمر في جباليا النزلة شمالي القطاع، فإن تجربته تمنحه شيئا من الأمل، بإعادة أمجاد هوايته السابقة، يوم أن كان ملكًا في تربية الدواجن وطيور الزينة.
عمل أدهم لسبع سنوات في هذه المهنة قبل اندلاع الحرب، وذاع صيته من شمال القطاع حتى جنوبه، لكنّ الاحتلال لم يُبقِ له أي أثر من ذلك، بعدما قصف الحيّ الذي يسكنه بمن فيه من بشر وحجر وطيور وحيوانات.
فر مع عائلته إلى جنوب القطاع، وأعاد ترتيب أموره قبل أن ينطلق مجددًا بتربية الدواجن، معتمدًا على الإنتاج المحلي، بـ "ترقيد الدجاج اللاحم"، ليعيش طقوسه في عالمه المفضّل، وتكون مصدر دخل يُلبي من عائداته احتياجات عائلته.
![]() |
نفوق قطيع من الأغنام والخراف بسبب القصف الإسرائيلي- رويترز |
وعن ذلك يتحدث لمراسلتنا: "اشتريت فقاسة بيتية، وألواح طاقة شمسية، و30 دجاجة مع ديوك بلدية رغم ارتفاع أسعارها، إذ وصل سعر الدجاجة الواحدة 500 شيكل، بعد أن كانت قبل الحرب بـ 30 شيكلًا".
كغيره من مربي الطيور والحيوانات، واجه مشروعه صعوبات عدّة، أبرزها عدم توفر الأعلاف، والأدوية البيطرية بشكل عام، التي لم تدخل للقطاع منذ بداية الحرب، أما المتوفرة بالأسواق فهي منتهية الصلاحية وبالتالي لا يُمكن الاستفادة منها.
وفي إجابته على سؤالنا "كيف أثرّ ذلك على الإنتاج المحلي؟" يُوضح أنّ "عدم توفر الأعلاف والفيتامينات، أدى لتدهور حالة الطير من حيث النمو والإنتاج. على سبيل المثال، الدجاجة كانت تُعطينا دورة إنتاج تمتد لـ 6 شهور على مدار العام، بينما نتكلم اليوم عن مدة لا تزيد عن 3 شهور".
أضف إلى ذلك، كانت الدجاجة تُعطي صاحبها يوميًا بيضة على الأقل، أما حاليًا بالكاد تُعطيه كل ثلاثة أيام بيضة واحدة، وبالرغم من ذلك، لا يشعر بالندم متابعًا: "وإن كان الإنتاج ضعيفًا، لكن يكفيني أنني حققت لأطفالي كفاية من البيض، حيث يصل سعر البيضة الواحدة 25 شيكلًا وهذا السعر فوق قدرة الناس الشرائية".
![]() | ![]() |
تربية الدواجن في بيت أدهم بدر | جرجير ضمن الزراعة المنزلية لعائلة نازحة وسط قطاع غزة- آفاق |
"غذاؤنا من أيدينا"
مثل ضيوفنا، هناك المئات يعملون بمبادرات فردية، وليس بالضرورة أن يكون لديهم خبرات سابقة في هذه المجالات؛ لكنها محاولات جادة للتغلب على الظروف القاسية التي يمر بها سكان غزة، بعد أن سيّس الاحتلال الطعام، وحوّله لأداة ابتزاز أودت بحياة المئات وتهدد أرواح الآلاف.
ولتعزيز ثقافة الزراعة والتربية المنزلية أطلق خبراء ونشطاء بالزراعة المجتمعية في شهر مايو/ أيار المنصرم، مبادرة تحمل عنوان "غذاؤنا من أيدينا".
وفي هذا الإطار، يؤكد استشاري الطب البيطري سعود الشوا، وأحد القائمين على المبادرة، أنهم يسعون إلى إعادة الزراعة إلى المنازل وتحويل كل بيت إلى مساحة إنتاج غذائي، بما يخفف من وطأة الجوع ويعزز من صمود الفلسطينيين وكرامتهم.
ويشير في حديثٍ مع مراسلتنا، إلى أنّ الاحتلال دمر وجرف عمدًا الأراضي الزراعية وصادر الثروة الحيوانية، ما قلب المعادلة وحرم السكان من أهم مصادر الغذاء، فمن اكتفاء ذاتي إلى انهيار شبه كامل للأمن الغذائي.
وعلى ضوء ذلك، "برزت الحاجة الملّحة والواقعية لتأمين الغذاء محليًا، من خلال الإنتاج الذاتي، عبر الاستفادة من المساحات الصغيرة مثل الأسطح، الساحات، الزوايا وحتى الأواني الفارغة، لزراعة الخضروات أو تربية الدواجن والأرانب بوسائل بدائية لكن فعالة"، يقول الشوا.
وتسعى المبادرة عبر محاضرات توعوية وإرشادية تُنشر على منصات التواصل الاجتماعي، إلى تمكين عامة الناس من المشاركة في الإنتاج الغذائي، وإعادة إحياء ثقافة الزراعة الشعبية، وتقليل الاعتماد على المساعدات التي يفرض الاحتلال قيودًا مشددة على دخولها.
ولفت الشوا لوجود مبادرات ناجحة في مجالي الزراعة والثروة الحيوانية، وهو ما يراه بمثابة "بذرة تغيير فعلي، تنم عن وجود إرادة وتضامن شعبيين أثبتا قدرتهما على تجاوز التحديات مهما عظمت".
وبالتطرق إلى المعيقات التي تحدث عنها ضيوفنا أعلاه، بالإضافة لنقص المعرفة الزراعية لدى البعض وتداعيات القصف والنزوح المتكرر على هذه التجارب، بدا الشوا متفائلا في أن تتحول فكرة المبادرة من مجرد استجابة طارئة إلى حلول مستدامة تساهم في إعادة بناء المجتمعات بعد انتهاء الحرب.
![]() | ![]() |
حبّة بندورة جني ثمار زراعة منزلية خلال الحرب على غزة- خاص آفاق | طيور زينة كان يربيها أدهم بدر قبل العدوان الإسرائيلي |
No comments:
Post a Comment