الأراضي المقدسة الخضراء / GHLands
في قلب جبال قرية عابود شمال غرب محافظة رام الله، وتحت التكوينات الكارستية الممتدة في أحشاء الجبال، وتحديدًا في منطقة ذات طبوغرافيا كارستية تُطل على وادٍ عميق، تقع مغارة الكلزون في موقع إستراتيجي وجمالي، وهي إحدى أهم التكوينات الجيولوجية الطبيعية في فلسطين، حيث اجتمع العلم والجمال والإثارة في مكانٍ يخبئ في باطنه ذاكرة الأرض.
ضمن مهمة استكشافية نظّمها فريق "إلى القمر"، خاض عدد من الشابات والشبّان الفلسطينيين تجربة استغوار علمية وإنسانية وبيئية داخل المغارة، وثّقوا فيها مشاهداتهم للمعالم الطبيعية، والتكوينات الكارستية، ورصد سلوكيات الماء داخل الفراغات الصخرية، والتي تعكس ثراء الموقع الطبيعي وعمقه التاريخي والوطني.
يقول محمد أبو نوح، من قرية دير غسانة، لـ "آفاق البيئة والتنمية": "زرت عشرات الكهوف، لكن الكلزون لها طابعها الخاص. الكلس هنا يشبه الكلمات المنحوتة، وفي عمقها تشعر أن فلسطين تحرس أسرارها في باطن الجبل، لا خريطة توضّح امتدادها، لكنها ترسم في القلب مسارًا لا يُنسى."
![]() | ![]() |
مستغورو فريق الى القمر والإستعداد للدخول الى مغارة الكلزون | الطفل محمد عياش مع شقيقه قتيبه عياش داخل مغارة الكلزون |
الجيولوجيا الكارستية: الكلزون أنموذج حيّ
تُعدّ مغارة الكلزون جزءًا من النظام الكارستي الناتج عن إذابة الصخور الجيرية (الكلسية) بسبب المياه الحمضية وتحلّل الصخور الكلسية على مدى آلاف السنين.
تتصف هذه التكوينات بوجود الصواعد (Stalagmites) والهوابط (Stalactites)، والممرات الضيقة، والشقوق التي تسرب المياه وتشكّل أشكالًا جيولوجية فريدة.
تحدّثنا أزهار موسى من جبل المكبر، بقولها: "ما إن وطئت قدماي مدخل الكلزون حتى شعرت أنني أعبر حاجز الزمن. الصواعد والنوازل ليست مجرد أشكال جيولوجية، إنها علامات على صبر الماء، ودقة الخلق، وذاكرة الأرض. هذه المغارة ليست مجرد مغارة، إنها سجل طبيعي صامت يروي آلاف السنين من التكوين البيئي."
![]() | ![]() |
المستغور محمد أبونوح خلال زحفه داخل مغارة الكلزون | استعدادات الفريق مع سلم الحبال لدخول التجاويف الصخرية |
المغارة مرآة جيولوجية
أظهرت المعاينات الميدانية للفريق أن المغارة تشكلت جراء عملية التحلّل الكربوني، التي تؤثر على الصخور الكلسية بسبب مياه الأمطار الغنية بثاني أكسيد الكربون.
لُوحظت ترسيبات واضحة للصواعد والنوازل، وتجاويف ضيقة تمثل أنفاقًا مائية قديمة، إضافة إلى بلّورات كلسية ناعمة ما زالت تتشكّل بسبب التنقيط المستمر.
وقد تطّلب دخول الكلزون من أعضاء فريق "إلى القمر" الانحناء والزحف عبر مدخل ضيق لا يتجاوز عرضه نصف متر، ومن ثم تتفرع الدهاليز في شبكة طبيعية تمتد تحت الأرض، تُكتشف فيها صواعد ونوازل وتجاويف رسّبتها المياه عبر حقب جيولوجية طويلة.
فيما تحكي رنا عبيدات، من جبل المكبر، وهي ناشطة في السياحة البيئية: "كل ما قرّبنا من قلب المغارة، كنت أحس حالي أقرب لجذور الأرض. هذه ليست رحلة استكشافية عادية، دخول الكلزون هو دخول إلى روح فلسطين. ما وجدناه هنا لا يُقدّر بثمن؛ مغارة غير مُوثّقة، لكنها حيّة، تتنفس معنا وتخبرنا من نحن."
![]() | ![]() |
استعدادت الفريق للنزول الى داخل مغارة الكلزون | صورة جماعية لمستغوري فريق الى القمر داخل مغارة الكلزون |
فن الماء والصخر عبر آلاف السنين
في أعماق مغارة الكلزون، تتدّلى من السقف نوازل كلسية كأنها لوحات نحتتها يد الماء بصبر أسطوري، وفي المقابل تنهض من الأرض صواعد شامخة، تلتقي أحيانًا بنوازلها في أعمدة صخرية صلبة، شاهدة على توازن دقيق بين التبخر والترسيب.
هذه التكوينات الجيولوجية، التي تتشكل ببطء شديد لا يتجاوز أجزاء المليمتر في السنة، هي نتاج رحلة طويلة لمياه الأمطار، وتنساب عبر شقوق الصخور الجيرية، مشبعة بثاني أكسيد الكربون، لتترك وراءها طبقات دقيقة، وكل طبقة منها هي صفحة في سجل زمني صامت، يحفظ تاريخ المناخ والبيئة في فلسطين عبر العصور.
وبين انعكاسات الضوء على البلورات الكلسية، شعر المستغورون أن المكان ليس مجرد فضاء تحت الأرض، بل مختبرًا طبيعيًا مفتوحًا يروي حكاية التقاء الماء بالصخر والزمن في سيمفونية جيولوجية فريدة.
![]() | ![]() |
كسرة فخار تعود الى حقب تاريخية قديمة داخل مغارة الكلزون | خفاش نائم معلق على جدار مغارة الكلزون والتي تحوي مئات الخفافيش |
تعليمات السلامة والحفاظ على الموقع
نظرًا لطبيعة المغارة، التزم المشاركون تماماً بإجراءات السلامة، من ارتداء الخوذ الواقية، واستخدام المصابيح الكاشفة الفردية، إلى عدم لمس التكوينات الكلسية الهشة، واحترام النظام البيئي الداخلي.
يصف قتيبة عياش، من قرية رافات، تجربة الرحلة: "كل من يلمس جدارًا هنا دون علم قد يُتلف آلاف السنين من الترسيب. المغارة ليست لنا فقط، بل للأجيال القادمة، والكلزون ليست مجرد مغارة، بل درسًا حيًا في علم الجيولوجيا. كل قطرة هنا تُعلّمك شيئًا عن صبر الزمن."
![]() | ![]() |
النوازل الكلسية المتشكلة من الصخور الجيرية | همس الطبيعة يتجسد في قطرة تسافر من السقف إلى عمق الأرض |
البيئة الداخلية رطوبة وصمت وتنوع
أظهرت الملاحظات الميدانية أن المغارة تتمتع ببيئة داخلية مستقرة من حيث الرطوبة والحرارة، مما يوفر بيئة ملائمة لتشكّل الصواعد والهوابط. المياه المتسربة من السطح تشكّل نظامًا بيئيًا خاصًا، وقد شاهد الفريق داخل المغارة أنواعًا من الخفافيش والحشرات الدقيقة، وهو ما يتطلب مسوحات بيئية إضافية.
وفي السياق تذكر هبة عبيدات، من جبل المكبر، لـ "آفاق البيئة": "أول ما زحفت جوّا، قلبي صار يدق بسرعة، بس مش من الخوف، من رهبة المكان، وما شدّني في الكلزون ليس فقط جمالها الطبيعي، بل هندستها الخفية، والممرات الضيقة، وارتفاعات السقف، وتجاويف الصدى، كل شيء يبدو وكأنه بُني بعناية معمارية صامتة، لا يعرفها إلا الماء والصخر والزمن."
![]() | ![]() |
حين يلتقي الماء بالصخر... تبدأ أعجوبة النوازل | شموع الحجر التي أضاءها الماء عبر القرون |
أبعاد وطنية وروحية
لا تمثّل الكلزون مجرد ظاهرة جيولوجية، بل تحمل دلالة وطنية وتاريخية، كونها جزءًا من الذاكرة الجغرافية لفلسطين. فهي مكان مغلق في وجه الغرباء، مفتوح لأبناء الأرض الذين يفهمون لغته الصامتة، ويقرؤون الحجارة أرشيفًا حيًا لذاكرة المكان.
يعطينا الموجز فراس خوري، من عابود، والذي قاد رحلة الاستغوار: "ما نكتشفه تحت الأرض لا يقل أهمية عمّا فوقها. الكلزون شهادة حية على الجغرافيا الفلسطينية التي لم تُكتب بعد."
وببراءةٍ وفضول يتقد في عيني الطفل محمد عياش ( 10 أعوام) الذي رافق شقيقه قتيبة، من قرية رافات، قال: "أول ما دخلت المغارة مع الفريق والخوذة على راسي، حسّيت كأني فتحت باب لعالم تاني، النور من الكشاف كان يلمع على الصخور المتدلية. كنت ماشي وقلبي يدق بسرعة، كل زاوية كان وراها شكل جديد. حسّيت إني جزء من مغامرة كبيرة أكبر من عمري وأكبر مني بكتير".
![]() | ![]() |
حكاية الماء مع الصخر... تُروى ببطءٍ من قلب المغارة | في قلب كهف الكلزون الكارستي، ترسم قطرات الماء خرائط الحجر بمداد الكالسيوم |
الاستغوار أداة لحماية التراث البيئي
هذه الرحلة لم تكن مغامرة فحسب، بل أداة للتوثيق لتوعية المجتمع بأهمية هذه المواقع. فالمغارات الكارستية مهددة بالتخريب أو النسيان، وحمايتها تتطلب تسجيلها رسميًا باعتبارها مواقع تراث طبيعي، ومنع الأنشطة التي قد تضر ببنيتها أو نظامها البيئي.
يقول بلال حمامرة، كابتن فريق "إلى القمر"، لمراسل "آفاق البيئة": "يجب إجراء مسح جيولوجي وبيئي شامل لمغارة الكلزون لتوثيق تشكيلاتها وتنوعها البيولوجي، وإدراجها موقعًا محميًا ضمن المناطق الطبيعية ذات الأهمية في فلسطين."
وأشار حمامرة إلى ضرورة تنظيم زيارات علمية وميدانية مدروسة لتعزيز الوعي البيئي لدى الشباب، وتطوير شراكات بين المؤسسات البيئية والجامعات، لتوظيف استغوار المغارات في البحث العلمي.
ويؤكد فراس خوري بقوله: "كوني من أبناء عابود، أشعر بمسؤولية خاصة تجاه الكلزون. هذه المغارة جزء من هويتنا وجغرافيتنا. داخل الكلزون، لا يوجد شيء عشوائي؛ كل قطرة ماء خلّفت أثرًا، وكل حجر احتفظَ بشكله لأن أحدًا لم يعبث به. نحن هنا لا لنكتشف المكان فحسب، بل لنحميه ونمنع عنه مصير كثير من المواقع التي أضحت عرضة للتخريب أو النسيان."
![]() | ![]() |
نوازل وصواعد تتشكل عبر آلاف السنين من ترسيب الكالسيوم بفعل قطرات الماء المشبعة بالمعادن | اعضاء الفريق في لحظات استراحة بين التكوينات الكلسية |
توثيق وطني وإيكولوجي
يمثّل توثيق مغارة الكلزون مساهمة في الحفاظ على التراث البيئي الفلسطيني، الذي يعاني الإهمال والمخاطر الناتجة عن التوسع العمراني أو التخريب العشوائي، فالمغارة، كبقية المواقع الكارستية، تعد موردًا بيئيًا وسياحيًا وثقافيًا يجب حمايته بالقانون والأبحاث وبمجتمع واعٍ.
مغارة الكلزون ليست مجرد فجوة في الجبل، بل مرآة لعمق فلسطين الجيولوجي والروحي.
أعمدة من الحجارة البيضاء تلامس سقف المغارة، تشهد على آلاف السنين من ترسيب قطرات الماء الكلسية
في كل قطرة ماء تتساقط من سقفها، تنعكس آلاف السنين من الصبر والتاريخ، وبين دهاليزها يُولد الانتماء، وتُكتب فصول جديدة من العلاقة بين الإنسان وأرضه.
يقول مروان كنعان، من بلدة طمرة في الداخل المحتل، الذي انضم إلى فريق الاستغوار: "الصواعد والهوابط حسّيتهم أرواح صامتة، واقفة بتشهد على صبرنا وبقائنا. وما يميز الكلزون هو الغموض، لا تعرف ما ينتظرك بعد الزاوية التالية. هذه المغارة تحدٍّ وانتصار لكل من يملك الشغف والشجاعة، والجميل فيها أنها لا تبوح بكل أسرارها من أول زيارة."
![]() | ![]() |
شعاع من الشمس يخترق قلب مغارة الكلزون | نوازل ومنحوتات تشبه شلالات متجمدة صاغها المطر منذ الاف السنين |
دعوة لحماية الكنز الخفي
رغم الرطوبة، والضيق، والخطر، لم تغب عن الفريق روح المغامرة؛ وبين تعرّجات الجدران الكلسية، سُجّلت لحظات صمت وتأمل لا توصف.
يختم فريق "إلى القمر" رحلته بنداء موجّه للمؤسسات الرسمية والبيئية في فلسطين، لتسجيل مغارة الكلزون موقعًا بيئيًا جيولوجيًا محميًا، ودمجه في برامج التوعية البيئية والمناهج التعليمية.
![]() | ![]() |
تكوينات كلسية معلقة تكشف عن سجل طويل من التفاعلات الجيولوجية | النوازل والصواعد هي سجلات طبيعية لمناخات الماضي وحركة المياه الجوفية |
![]() | ![]() |
من صمت مغارة الكلزون تنبثق أعمدة الزمن، شاهدة على حكايات الأرض والماء | المستغور فراس خوري في عمق مغارة الكلزون |
![]() | ![]() |
الباحث خالد أبو علي يشير الى التجاويف الصخرية والأنفاق الجيولوجية تكشف أسرار العمليات الكارستية العميق | قتيبة عياش خلال دخوله التجاويف الصخرية وسط مغارة الكلزون |
![]() | ![]() |
المستغور مروان كنعان يتوسط الباحث والطفل محمد عياش داخل مغارة الكلزون | أشكال كلسية عضوية تحاكي مجسّمات لكائنات بحرية من زمن سحيق |
![]() | ![]() |
لحظات تأمل بين الصواعد والنوازل التي رسّبتها المياه عبر حقب جيولوجية طويلة. | اعضاء فريق الى القمر بعد عملية الإستغوار في مغارة الكلزون |
No comments:
Post a Comment