الأراضي المقدسة الخضراء / GHLands
حرب بيئية وإبادة في غزة: الاحتلال يحوّل الأرض الخصبة إلى صحراء قاحلة
“أرض بلا شعب وشعب بلا أرض”.. هكذا يبدو أن حكومة الاحتلال الإسرائيلي في غزة تسعى لتحقيق هدف مزدوج: القضاء على الفلسطينيين وحرمانهم من أرضهم
يتم ذلك عبر وسيلتين متلازمتين: القتل الجماعي والتهجير القسري للفلسطينيين، وجعل الأرض غير صالحة للحياة. إلى جانب جريمة الإبادة البشرية تتكشف جريمة أخرى لا تقل فظاعة: الإبادة البيئية أو «الإيكوسايد».
ورغم أن الدمار الذي لحق بالمباني والبنية التحتية في غزة يظهر في كل مقطع فيديو، فإن التدمير الموازي للأنظمة البيئية ووسائل العيش أقل وضوحًا.
قبل7 أكتوبر، كان نحو 40% من أراضي غزة مزروعًا، وكان القطاع – رغم كثافته السكانية – مكتفيًا ذاتيًا في الخضروات والدواجن ويلبي جزءًا كبيرًا من احتياجات السكان من الزيتون والفاكهة والحليب.
لكن الأمم المتحدة أفادت الشهر الماضي بأن 1.5% فقط من الأراضي الزراعية بقيت متاحة وغير متضررة، أي نحو 200 هكتار فقط لإطعام أكثر من مليوني إنسان.

تدمير ممنهج للزراعة والموارد
يرجع ذلك إلى التدمير المنهجي للمزارع من قبل الجيش الإسرائيلي: تدمير البيوت البلاستيكية، اقتلاع البساتين وحرث المحاصيل وتجريف التربة، ورش المبيدات على الحقول من الجو. يبرر جيش الاحتلال هذه الهجمات بالقول إن “حماس تعمل غالبًا من داخل البساتين والأراضي الزراعية”؛ وهو الادعاء نفسه الذي يسوقه لتبرير ضرب المستشفيات والمدارس والجامعات والمصانع وكل مورد يعتمد عليه الفلسطينيون.
في الوقت ذاته يوسّع الجيش الإسرائيلي “المنطقة العازلة” على طول الحدود الشرقية للقطاع، حيث تتركز معظم الأراضي الزراعية. وكما يوضح الباحث الحقوقي حمزة حموشنة، فإن إسرائيل بدلًا من “جعل الصحراء تزهر” – كما يروج إعلامها – تحوّل الأراضي الخصبة إلى صحراء قاحلة.
ولا يقتصر الأمر على غزة، إذ دأبت إسرائيل لعقود على اقتلاع أشجار الزيتون المعمرة في الضفة الغربية وقطاع غزة لحرمان الفلسطينيين من مصدر رزقهم وكسر ارتباطهم بالأرض.
الزيتون يمثل 14% من الاقتصاد الفلسطيني وله قيمة رمزية؛ فإذا اختفت شجرة الزيتون اختفى غصن الزيتون. هذه السياسة المحروقة، مع الحصار الغذائي، تضمن وقوع المجاعة.

انهيار البنية البيئية والمياه
أدى القصف والانقطاع المتعمد للوقود إلى انهيار معالجة مياه الصرف الصحي، فطفحت المياه العادمة على الأرض وتسربت إلى الخزانات الجوفية ولوثت المياه الساحلية. قبل الهجوم، كان نصيب الفرد من المياه في غزة نحو 85 لترًا يوميًا، وهو الحد الأدنى الموصى به عالميًا، لكن بحلول فبراير تراجع إلى 5.7 لترات فقط. كما يهدد ضخ مياه البحر إلى أنفاق حماس بتدمير الخزان الجوفي الساحلي نهائيًا نتيجة تغلغل الأملاح.
قدّرت الأمم المتحدة العام الماضي أن كل متر مربع من غزة يحتوي في المتوسط على 107 كجم من أنقاض القصف، أغلبها مختلط بالأسبستوس والذخائر غير المنفجرة وبقايا بشرية وسموم الأسلحة.
تحتوي الذخائر على معادن ثقيلة مثل الرصاص والنحاس والزئبق واليورانيوم المستنفد، وهناك تقارير موثوقة عن استخدام إسرائيل للفوسفور الأبيض المحظور دوليًا، وهو مادة حارقة سامة تلوث التربة والمياه وتسبب آثارًا صحية كارثية.

انبعاثات هائلة وتغيير المناخ
إلى جانب الآثار المباشرة على حياة سكان غزة، فإن انبعاثات الكربون الناتجة عن العدوان الإسرائيلي هائلة؛ إذ يترافق الدمار مع انبعاثات ضخمة أثناء الحرب والتكلفة المناخية الباهظة لإعادة الإعمار – إذا سمح بها أصلًا – حيث تعادل انبعاثات إعادة الإعمار وحدها الانبعاثات السنوية لدولة متوسطة الحجم.
يرى عالم البيئة الفلسطيني مازن قمصية أن “تدهور البيئة ليس عرضيًا بل مقصود وممتد ويهدف إلى كسر الصمود البيئي للشعب الفلسطيني”.

تواطؤ دولي وإعفاء عسكري
تُنتج الجيوش عالميًا نحو 5.5% من انبعاثات الغازات الدفيئة، ومع ذلك تُعفى – بضغط أمريكي – من الإبلاغ الإلزامي وفق اتفاق باريس، ولا تُحاسب على أضرارها البيئية من إزالة الغابات إلى التلوث وتدمير التربة والتخلص غير المنظم من النفايات.
أرقام صادمة من صور الأقمار الصناعية
يكشف تحليل صور الأقمار الصناعية الذي حصلت عليه صحيفة “الغارديان” عن تدمير نحو 38–48% من الغطاء الشجري والأراضي الزراعية في غزة، وتحويل بساتين الزيتون والمزارع إلى أرض قاحلة، وتلوث التربة والمياه الجوفية، واختناق البحر بالنفايات والصرف الصحي، وتلوث الهواء بالدخان والجسيمات.
فقدت غزة أكثر من 7,500 بيت بلاستيكي، ودُمّر ثلث بنيتها الزراعية كليًا، وبلغت نسبة الدمار 90% في الشمال و40% في خان يونس.
وصف الباحثون في منظمة “العمارة الجنائية” (Forensic Architecture) المشهد بأنه “منهجي”: قصف جوي يتبعه اقتحام بري وتجريف كامل للأراضي وإنشاء طرق عسكرية جديدة مثل “الطريق 749” الذي يشق القطاع من الشرق إلى الغرب.

بيئة غير قابلة للعيش
تقدر الأمم المتحدة أن القصف خلّف 22.9 مليون طن من الركام والمواد الخطرة، تحتوي على الأسبستوس والمعادن الثقيلة والذخائر غير المنفجرة. تراكم أكثر من 70 ألف طن من النفايات الصلبة منذ 7 أكتوبر، مع ظهور أكثر من 60 مكبًا عشوائيًا للنفايات في وسط وجنوب القطاع.
“الحياة ليست حياة”، تقول سهى أبو دياب، النازحة من غزة إلى رفح والتي تعيش مع أسرتها وسط مياه الصرف والنفايات. ويضيف أمير، أحد سكان رفح: “رائحة البارود والغازات السامة من القصف والسيارات تجعل الناس والبيئة في خطر حقيقي”.

جريمة إبادة بيئية
يرى خبراء القانون الدولي أن هناك ما يكفي من الأدلة للتحقيق في الدمار البيئي في غزة كجريمة حرب محتملة واعتباره “إبادة بيئية” وفقًا لنظام روما الأساسي الذي يجرّم شن هجمات مفرطة الضرر على البيئة الطبيعية.
تقول عبير البطمة، منسقة شبكة المنظمات البيئية الفلسطينية: “الاحتلال الإسرائيلي دمّر تمامًا كل عناصر الحياة والبيئة في غزة – الزراعة والحياة البرية وكل شيء”. وتضيف: “ما يحدث هو بلا شك إبادة بيئية طويلة الأمد”.
الاستعمار الأخضر وتاريخ طويل من التدمير
يوضح حمزة حموشنة في دراسته أن الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي لطالما استخدم البيئة كسلاح للسيطرة والإخفاء: من مشاريع التشجير التي قادها الصندوق القومي اليهودي لطمس القرى الفلسطينية، إلى تجفيف بحيرة الحولة وتحويل مجرى نهر الأردن، إلى الاستيلاء على المياه منذ 1948.
هذه الممارسات جزء من خطاب “الاستشراق البيئي” الذي يصور فلسطين أرضًا قاحلة تحتاج “إنقاذًا” على يد المستوطنين، بينما الحقيقة أن هذه السياسات دمّرت النظم البيئية وأفقرت الفلسطينيين من مواردهم.

لا عدالة مناخية بلا تحرير فلسطين
يختتم التحليل بالتأكيد على أن ما يجري في غزة يوضح الترابط العميق بين أزمة المناخ والنضال الفلسطيني: لا يمكن تحقيق عدالة مناخية حقيقية دون تحرير فلسطين، تمامًا كما أن نضال الفلسطينيين من أجل حريتهم متصل ببقاء الأرض والبشرية. المقاومة الفلسطينية المتجذرة في الأرض والثقافة والرعاية تقدم ليس فقط رفضًا للهيمنة بل رؤية للعدالة البيئية القائمة على التحرر.
ترتكب إسرائيل في غزة جرائم مروعة بحق السكان والبيئة معًا، في امتداد لحرب طويلة الأمد وصفتها شُوريده مولافي في كتابها «الحرب البيئية في غزة». ترفض مولافي النظر إلى البيئة كخلفية سلبية للصراع، وتوضح كيف تستخدم الممارسات الاستعمارية الإسرائيلية العناصر البيئية أداةً فعالة للحرب العسكرية داخل قطاع غزة وحوله. ويظهر ذلك في تدمير المناطق السكنية والأراضي الزراعية بالتوازي.

تأخذ هذه الممارسات شكل العنف البيئي الممنهج؛ من تجريف الأراضي وفرض قيود على زراعة الفلسطينيين، بما في ذلك تحديد أنواع المحاصيل وارتفاعها، إلى القضاء شبه الكامل على بساتين الزيتون والحمضيات التقليدية.
حتى خارج فترات الاجتياح والمجازر، تعبر الجرافات الإسرائيلية الحدود بانتظام لاقتلاع المحاصيل وتدمير البيوت المحمية. وبهذا وسّعت إسرائيل على نحو مستمر «المنطقة العازلة» على طول الحدود الشرقية لغزة.

منذ عام 2014 شمل ذلك استخدام مواد كيميائية؛ إذ تنفّذ الطائرات الإسرائيلية رشًّا جويًا لمبيدات عشبية سامة على الأراضي الزراعية الفلسطينية مئات الأمتار داخل غزة.
وقدّرت وزارة الزراعة الفلسطينية أنّ هذه الرشّات ألحقت أضرارًا بأكثر من 13 كيلومترًا مربعًا من الأراضي بين 2014 و2018. وحذّرت مؤسسة الميزان الحقوقية من أن الحيوانات التي تتغذى على نباتات ملوثة قد تنقل السموم إلى البشر عبر السلسلة الغذائية.
أدّت هذه الممارسات إلى تدمير مساحات واسعة من الأراضي الزراعية حتى قبل بدء الإبادة الحالية، ما حرم المزارعين من مصادر رزقهم وسهّل على الجيش الإسرائيلي عمليات الاستهداف عن بُعد.
ونتيجة لذلك بدت أراضي غزة الفلسطينية قاحلة مقارنةً بالمزارع المروية في المستوطنات الإسرائيلية المجاورة. في مفارقة صارخة، لا «تُزهِر الصحراء» بل تُحوَّل الأراضي الخصبة إلى مناطق جرداء بفعل التجريف والتسميم.

منذ هجوم 7 أكتوبر دخلت الجرائم الإسرائيلية في غزة مرحلة الإبادة البيئية. فوفقًا لمنظمة «Forensic Architecture» التي تعتمد على صور الأقمار الصناعية، شنّت إسرائيل حملة استهداف منهجية للبساتين والبيوت المحمية، ما فاقم المجاعة. وبحلول مارس 2024 دُمِّر نحو 40% من الأراضي الزراعية، وتعرّض ثلث البيوت المحمية للهدم (حتى 90% شمالًا و40% حول خان يونس جنوبًا). كما أظهرت تحليلات صور الأقمار الصناعية التي نشرتها «الغارديان» أن نصف الأشجار والأراضي الزراعية دُمِّرت واستخدمت ذخائر غير مشروعة مثل الفوسفور الأبيض، ما أدى إلى تلوث التربة والمياه الجوفية وتلوث الهواء بالدخان والجسيمات الدقيقة.
أحد أخطر عناصر الإبادة البيئية هو تدمير مصادر المياه. قبل الحرب الحالية كان 95% من مياه حوض غزة ملوثة وغير صالحة للشرب أو الري بسبب الحصار والعدوانات المتكررة التي أعاقت بناء وصيانة منشآت المياه والتحلية. ومنذ أكتوبر 2023 انهارت منظومة المياه والصرف الصحي بالكامل، ما أدى إلى العطش وانتشار أمراض مثل التيفوئيد.
أدّى نقص الوقود إلى لجوء السكان لقطع الأشجار لاستخدامها في الطهي والتدفئة، ما فاقم فقدان الغطاء الشجري. وفي الوقت ذاته يهدد القصف المكثف ما تبقى من التربة، إذ يلوثها على المدى الطويل عبر الذخائر والمواد الخطرة المنبعثة من المباني المنهارة (الأسبستوس، المواد الصناعية، الوقود). وبحلول يوليو 2024 قدّر برنامج الأمم المتحدة للبيئة (UNEP) أنّ القصف خلّف 40 مليون طن من الأنقاض والمواد الخطرة، مع وجود رفات بشرية بين الركام. يحتاج رفع هذا الركام 15 عامًا وقد يتكلف أكثر من 600 مليون دولار.
امتدت الإبادة البيئية إلى بحر غزة المختنق بالمياه العادمة؛ إذ أدت انقطاعات الكهرباء الناجمة عن قطع الوقود إلى تسرب 100 ألف متر مكعب من مياه الصرف يوميًا إلى المتوسط. ومع تدمير البنية الصحية والهجمات على المستشفيات ومنع دخول الإمدادات الطبية، تهيأت بيئة مثالية لعودة أمراض مثل الكوليرا وشلل الأطفال.
يرى خبراء ومراقبون أن هذا التدمير الشامل حول غزة إلى منطقة غير صالحة للعيش.

غزة في مواجهة الإمبريالية والرأسمالية الأحفورية
في قمة المناخ COP28 بدبي عام 2023 صرّح الرئيس الكولومبي غوستافو بيترو: «الإبادة والهمجية التي يتعرض لها الفلسطينيون هي ما ينتظر الهاربين من الجنوب بسبب أزمة المناخ… ما نراه في غزة هو بروفة للمستقبل». يكشف هذا التصريح أن الإبادة في غزة إنذار لما سيحدث إذا لم نقاوم. رفض الإمبراطورية الطبقي اتخاذ إجراءات مناخية في COP29 مع استمرار تمويل الإبادة في غزة، كما حدث في «فصل اللقاحات» خلال جائحة كورونا، يوضح ذلك.
تكشف غزة أيضًا عن دور الحرب والمجمع الصناعي العسكري في أزمة المناخ. فالجيش الأمريكي هو أكبر باعث مؤسسي للانبعاثات عالميًا.
وفي شهرين فقط من الحرب تجاوزت انبعاثات إسرائيل السنوية انبعاثات أكثر من 20 دولة من الأكثر تعرضًا للمناخ، معظمها من رحلات الشحن العسكري الأمريكية وتصنيع الأسلحة.
الولايات المتحدة لا تمكّن الإبادة فقط بل تساهم في الإبادة البيئية في فلسطين. وتقع فلسطين في قلب الشرق الأوسط، مركز الاقتصاد العالمي الأحفوري الذي ينتج نحو 35% من نفط العالم. في هذا السياق تسعى إسرائيل لتكون مركزًا إقليميًا للطاقة عبر حقول الغاز البحرية (تمار وليفياثان)، ومنحت تراخيص تنقيب جديدة بعد أسابيع من بدء حربها.
إن هيمنة الولايات المتحدة على الشرق الأوسط تقوم على ركيزتين: إسرائيل والأنظمة الخليجية، وتعمل على دمج إسرائيل في المنطقة عبر اتفاقيات التطبيع. لذلك فإن تحرير فلسطين ليس مجرد قضية أخلاقية بل مواجهة مباشرة للإمبريالية الأمريكية والرأسمالية الأحفورية، ويجب أن يكون في صميم نضالات العدالة المناخية عالميًا.

المقاومة و”الصمود البيئي”
رغم الكارثة المستمرة، يواصل الفلسطينيون مقاومتهم اليومية بإلهام العالم بما يسمّى «الصمود البيئي» (Eco-sumud)، وهو مفهوم قدّمته منال شقير ليصف الممارسات اليومية المتجذرة في الأرض والثقافة والمعرفة البيئية الأصلية، والتي ترفض تفكيك الرابط بين الفلسطينيين وأرضهم. هذا الصمود يقوم على الإيمان بإمكانية هزيمة الاستعمار الاستيطاني ويؤكد رغبة المستعمَرين في تقرير مصيرهم.
تلهم هذه المقاومة، المتجسدة في التعلق العميق بالأرض، حركات العدالة المناخية والبيئية عالميًا في مواجهة الكوارث المتداخلة. وكما كتب المنظّر البيئي أندرياس مالم: «حتى عندما تكتمل الكارثة وتصبح شاملة، نواصل المقاومة… الفلسطينيون لا يقاتلون من أجل أنفسهم فقط بل من أجل الإنسانية جمعاء». نقلا عن نوقع المستقبل الأخضر
No comments:
Post a Comment