الأراضي المقدسة الخضراء / GHLands
من بين أنقاض منزله المدمَّر، كان حمزة الشامي ينظر إلى مشهد من الدمار الكامل. فما إن بدأ وقف إطلاق النار في غزة يوم الجمعة الماضي، حتى أسرع الشاب البالغ من العمر 29 عامًا، وهو فني كمبيوتر، إلى حيّه في خان يونس قادمًا من الخيمة التي كان يحتمي بها في الجهة الغربية من المدينة.
قال الشامي لصحيفة تايمز البريطانية: “ذهبت مباشرة لأرى منزلي، لكنني وجدت مجرد أنقاض. كان البيت مكوَّنًا من عدة طوابق، وفيه ورشة كنت أعمل فيها مع إخوتي، لكنه دُمّر بالكامل. كل شيء اختفى، حتى الشوارع والمعالم التي كنت أعرفها أصبحت غير قابلة للتعرّف عليها”.
ورغم ارتياح الشامي وأصدقائه لوقف إطلاق النار، فإنهم يدركون أنهم يواجهون طريقًا طويلًا وشاقًا لإعادة بناء مدينتهم المحطّمة.
حجم الدمار غير مسبوق منذ الحرب العالمية الثانية. فبحسب أحدث بيانات الأمم المتحدة، المستندة إلى صور الأقمار الصناعية الملتقطة بين 22 و23 سبتمبر الماضي، تبيّن أن نحو 83% من المباني في مدينة غزة قد تضررت، من بينها 17 ألفًا و734 مبنى دُمّرت بالكامل.
في خان يونس جنوبًا، الوضع مشابه، إذ سُويت أحياء كاملة بالأرض بعدما كثّف جيش الاحتلال الإسرائيلي هجماته خلال الأسابيع الأخيرة. وعلى مستوى القطاع، ارتفع عدد المباني المدمَّرة بمقدار الثلث مقارنة بالشهر السابق.
وتشير الصحيفة إلى أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب كان قد تصوّر في البداية مشروع إعادة تطوير جذري على طراز “الريفييرا” لشريط غزة الساحلي بطول 25 ميلًا، بحيث يتحول إلى منطقة منتجعات وفنادق فاخرة، ويُمنح سكانه أموالًا لمغادرتها والعيش في أماكن أخرى.
لكنه تبنّى لاحقًا خطة أقل تطرفًا، بدعم من رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير، تقوم على إعادة إعمار غزة من أجل سكانها أنفسهم.

عملية غير مسبوقة
يرى أندرياس كريغ، الأستاذ المشارك في كلية الدراسات الأمنية بـ”كينغز كوليدج لندن” وزميل معهد دراسات الشرق الأوسط، أن عملية إعادة الإعمار هذه “لن تشبه أي عملية أخرى في التاريخ الحديث”.
واستشهد كريج بأمثلة من مدن دُمّرت بفعل الحروب مثل سراييفو خلال حروب يوغوسلافيا، وجروزني التي دمّرها الروس في الشيشان، والموصل التي دمّرها تنظيم الدولة الإسلامية في العراق، قائلًا: “هناك سوابق، لكن الوضع هنا مختلف تمامًا. في تلك الحالات كان الحديث عن مدينة واحدة، أما هنا فالأمر يعادل أربع مدن مجتمعة، فهذا قطاع ضخم بأكمله”.
وأضاف أن نحو مليوني إنسان يعيشون وسط الأنقاض، وكثير منهم بحاجة إلى ملاجئ ومدارس ومستشفيات مؤقتة.
ومن الفروق الجوهرية الأخرى، بحسب كريج، أن سكان غزة يحتاجون إلى بدء العمل فورًا، لكن التقدّم سيكون بطيئًا في ظل وجود مقاتلي حماس المسلحين في الأنفاق. لذلك، يرى أن هناك حاجة إلى قوة حفظ سلام لضمان الأمن قبل وصول التمويل والمعدات اللازمة لإعادة الإعمار.
وفي السياق ذاته، يقول فيليب بوفيرات، المدير التنفيذي السابق لشركة تصنيع المعدات الإنشائية “جيه سي بي” (JCB)، وهو من أصحاب الخبرة في مشروعات إعادة إعمار المدن الكبرى ويعمل حاليًا مع فرق في أوكرانيا، إن “المدن التي دمّرتها الحروب سابقًا توفر دروسًا مهمة”.
ويضيف: “هناك ما يمكن تسميته ببرنامج لوجستي يتكوّن من خطوات متسلسلة يجب اتباعها، يبدأ بتوفير المياه الصالحة للشرب، والصرف الصحي، والمأوى المؤقت، ثم تخطيط شبكة الطرق ومدّ الكهرباء على طولها، ثم إزالة الأنقاض، وأخيرًا جلب عمال البناء”.
لكن كل مرحلة من هذه المراحل أعقد مما تبدو عليه. فقد قدّرت الأمم المتحدة أن في غزة 54 مليون طن من الأنقاض تجب إزالتها. وللمقارنة، خلّف دمار مدينة الموصل في العراق ثمانية ملايين طن فقط.

50 مليار دولار لإعمار غزة
من المتوقع عقد قمة كبرى في مصر يحضور قادة عرب وأوروبيين، لوضع خطة إعادة الإعمار وتأمين التمويل الشهر المقبل كما أعلن الرئيس عبد الفتاح السيسي، الذي قد يتطلب ما لا يقل عن 50 مليار دولار، بحسب تقديرات البنك الدولي.
وتتوقع الصحيفة أن تستثمر قطر مبالغ ضخمة، سواء عبر مؤسسات الدولة أو صناديق الاستثمار الخاصة، وربما تُنفذ مشاريعها بشركاتها المحلية أو بالتعاون مع مقاولين أتراك.
كما يتوقع دبلوماسيون سابقون أن يستخدم مستثمرون إماراتيون شركاءهم المصريين لتنفيذ مشاريع داخل غزة.
ومن المرجّح أيضًا أن يدفع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان باتجاه إشراك شركات المقاولات التركية، كما حدث في إعادة إعمار سراييفو.

أما من الجانب الأميركي، فتُعد شركتا “كيه بي آر” (KBR) و”بيتشتيل” (Bechtel) -اللتان حصلتا على عقود ضخمة في العراق- من أبرز المرشحين للفوز بعقود في غزة، إلى جانب شركتين بريطانيتين هما “بلفور بيتي” (Balfour Beatty) و”لينغ أوريكي” (Laing O’Rourke).
كما يُتوقع أن تحصد شركات التصميم البريطانية مثل “آروب” (Arup) عقودًا مجزية، بعدما نجحت سابقًا في الفوز بمشاريع كبرى في السعودية.
ومع الدمار الهائل المحيط بهم، لا أحد في غزة يتوهم أن كل هذا سيحدث قريبًا.
يقدّر ثابت العمور، محلل من خان يونس يبلغ 47 عامًا، أن إعادة الإعمار ستستغرق عقدًا كاملًا، وأن إزالة الأنقاض وحدها ستتطلب عامين، وهي تقديرات تتماشى مع الرأي العام السائد.
أما المهندس الحاسوبي حمزة الشامي، فهو أكثر تفاؤلًا، إذ يقول: “أعتقد أن إعادة الإعمار يمكن أن تمثل بداية جديدة لغزة. ستخلق آلاف الوظائف لمن فقدوا مصدر رزقهم أثناء الحرب، وقد تُنعش الاقتصاد. الشباب ينتظرون هذه الفرصة، إنهم يريدون فقط أن يعملوا ويعيشوا بكرامة”.


No comments:
Post a Comment