الأراضي المقدسة الخضراء / GHLands
بين شحّ المواسم وغزارة الانتهاكات، الفلسطيني يتمسك بجذوره
الزيتون... رمز الصمود الفلسطيني
من قرية الولجة التي تحتضن أقدم شجرة زيتون في العالم، إلى قرى الجليل والخليل، تمتد جذور الزيتون مثل خيوط ذاكرة متوارثة، تُذكّر الفلسطينيين بأنّ الصمود ليس شعاراً، بل فعل حياة يتجدد كل خريف.
لطالما مثّلت شجرة الزيتون خط الدفاع الأول عن الأرض، فكل غرسة جديدة كانت بمثابة إعلان بقاء في وجه المصادرة والاستيطان.
ومع تصاعد التوسع الاستيطاني بعد انتفاضة الأقصى، تحوّل الزيتون إلى رمز للهوية الفلسطينية. تغطي هذه الشجرة اليوم نصف الأراضي الزراعية في فلسطين، ويعتمد عليها أكثر من 80 ألف مزارع كمصدر رزق أساسي. كما يشكّل موسم الزيتون ركيزة للاقتصاد الريفي ومناسبة اجتماعية تتوحد فيها العائلات حول رائحة الزيت الطازج.
انهيار الإنتاج بعد حرب 2023
تراجعت معدلات إنتاج الزيتون الفلسطيني منذ السابع من أكتوبر 2023 بشكلٍ كارثي، حيث انخفض الإنتاج بنسبة 67% مقارنة بعام 2022، ليصل إلى نحو 12 ألف طن فقط من الزيت بعد أن كان 36 ألفاً.
وتعزو وزارة الزراعة الفلسطينية هذا الانخفاض إلى الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، وتصاعد الاعتداءات في الضفة الغربية، وفرض القيود على وصول المزارعين إلى أراضيهم، إضافة إلى تدمير البنية التحتية الزراعية وتأثير التغير المناخي.
وقدرت منظمات إنسانية أن المزارعين خسروا أكثر من 1,200 طن متري من الزيت خلال موسم 2023، أي خسائر مالية تفوق 10 ملايين دولار أمريكي.
انتهاكات الاحتلال: اقتلاع الأشجار ومنع الوصول
منذ عام 2023 وحتى موسم 2025، تصاعدت الانتهاكات الإسرائيلية ضد المزارعين الفلسطينيين، خاصة في القرى القريبة من المستوطنات.
فقد وثّقت منظمات حقوقية 544 اعتداءً في الضفة الغربية، شملت اقتلاع أو حرق 31,688 شجرة، منها 23,061 شجرة زيتون، إلى جانب سرقة المحاصيل ومنع المزارعين من دخول أراضيهم.
وفي الوقت ذاته، أغلقت قوات الاحتلال معظم البوابات الزراعية المؤدية إلى الأراضي الواقعة بين الخط الأخضر والجدار، ولم تُفتح إلا نادراً. كما حُرم الفلسطينيون من الوصول إلى أراضيهم في المناطق المصنفة "ب" و"ج"، مثل 700 دونم في قريوت و1,900 دونم في ترمسعيا، فيما صنّفت الأراضي القريبة من المستوطنات كمناطق عسكرية مغلقة.
خلال موسم 2024 وحده، سجلت الجهات الحقوقية 2,886 اعتداءً، بينها 670 اعتداءً من قبل المستوطنين و136 اعتداءً على الأراضي والثروات الطبيعية. هذه الأرقام تكشف سياسة إسرائيلية ممنهجة تهدف إلى تفريغ الأرض من أصحابها وحرمان الفلسطينيين من مصدر رزقهم.
موسم 2025: اعتداءات تتسع وتبريرات واهية
مع انطلاق موسم الزيتون لعام 2025، شهدت محافظات الضفة الغربية تصاعداً في الاعتداءات الجسدية والميدانية ضد المزارعين.
ففي القدس، هاجم مستوطنون تجمع خلة السدرة البدوي شرقي مخماس، وفي الخليل منعت قوات الاحتلال المزارعين من دخول أراضيهم قرب مستوطنتي "أدورا" و"تيلم"، واستولت على مركباتهم.
وفي وادي سيف والقرينات، استخدم المستوطنون العصي والكلاب والحجارة للاعتداء على المزارعين، ما أدى إلى إصابات واحتراق مركبات. وامتدت الانتهاكات إلى بيت لحم ورام الله ونابلس وسلفيت والأغوار.
وترافق ذلك مع إغلاق الطرق والبوابات واحتجاز المزارعين لساعات طويلة تحت تهديد السلاح. كل ذلك يعكس استمرار نهج الاحتلال في اقتلاع الفلسطيني من جذوره كما تُقتلع شجرة الزيتون العتيقة.
رواية الاحتلال: تحويل القطف إلى "تهديد أمني"
اعتمدت إسرائيل خلال موسم 2025 سردية دعائية لتبرير الاعتداءات، حيث روجت أن موسم قطف الزيتون يشكّل "تهديداً أمنياً"، زاعمةً أن الفلسطينيين يستخدمون الأراضي لأغراض "عدائية".
تحولت هذه المزاعم إلى أداة سياسية لتقييد وصول الفلسطينيين إلى أراضيهم، بينما استخدم الإعلام الإسرائيلي عناوين مثل "كرنفال الزيتون يقترب" و*"خطر على السكان اليهود"*، لتشويه الحقيقة وتبرير جرائم المصادرة والاستيطان.
في الوقت ذاته، عطلت السلطات التنسيق بين الشرطة وجهاز "الشاباك" في متابعة اعتداءات المستوطنين، وألغت تصاريح الوصول للفلسطينيين في المناطق "ج"، بينما سمحت بتوسيع الطرق الاستيطانية ومصادرة المزيد من الأراضي.
مبادرات فلسطينية لحماية موسم الزيتون
في مواجهة هذه السياسات، أطلقت مؤسسات فلسطينية مبادرات ميدانية لحماية المزارعين، أبرزها حملة "الفزعة" التي تنظمها هيئة مقاومة الجدار والاستيطان، وتهدف إلى مرافقة المزارعين في المناطق المهددة، وحملة "إحنا معكم" التي تقودها الإغاثة الزراعية لتقديم الدعم والمساعدة في مواجهة اعتداءات المستوطنين.
ويؤكد أمير داود، مدير عام النشر في الهيئة، أن المؤسسة وثّقت خلال موسم 2025 وحده 160 اعتداءً، شملت تخريب أو تسميم 900 شجرة زيتون ومصادرة المحاصيل في 40 حالة.
ويقول داود إن عمل الهيئة يتركز على التوثيق القانوني والميداني، وتنظيم حملات لمساندة المزارعين وتزويدهم بالمعدات اللازمة، معتبراً أن التوثيق يشكّل أداة استراتيجية طويلة المدى لمحاسبة الاحتلال أمام المجتمع الدولي.
الزيتون... هوية لا تُقتلع
رغم شراسة الاعتداءات وتراجع الإنتاج، يبقى موسم الزيتون الفلسطيني أكثر من مجرد موسم زراعي؛ إنه فعل مقاومة ثقافية واقتصادية يعيد التأكيد على الارتباط العميق بين الفلسطيني وأرضه.
فكل شجرة تُقتلع تُزرع مكانها أخرى، وكل قطرة زيت تُعصر من رحم المعاناة، تبقى شاهداً على أن الهوية الفلسطينية لا تزال متجذرة في تراب الزيتون، مهما حاول الاحتلال اقتلاعها.
.jpeg)
.jpeg)
.jpeg)
.jpeg)
No comments:
Post a Comment