الأراضي المقدسة الخضراء / GHLands
![]() | |
|
في زمن يتسابق العالم فيه بحثًا عن بدائل مستدامة لمصادر المياه، يعيد الفلسطينيون إحياء فكرة قديمة كانت جزءًا من تفاصيل الحياة اليومية "البئر المنزلية"، تلك الحفرة الحجرية التي كانت تتوسط ساحة الدار، تجمع مياه المطر وتروي عطش العائلة على مدار العام، لم تكن يومًا مجرد مرفق خدماتي، بل رمزًا للاكتفاء والكرامة.
اليوم، ومع اشتداد الحرب على المياه، حيث يسيطر الاحتلال الإسرائيلي على 85% من الموارد الجوفية، ويمنع حفر الآبار الارتوازية حتى في المناطق المصنفة (أ) و(ب) حسب اتفاقيات أوسلو، باتت العودة إلى حفر الآبار في البيوت ليست مجرد خيار تقليدي، بل خيار بقاء.
الآبار المنزلية توفر حلًا بيئيًا واقتصاديًا في الوقت ذاته، فهي تعتمد على حصاد مياه الأمطار، ما يخفف التبعية للشبكات الخاضعة لشركة "ميكوروت" الإسرائيلية، ويمنح الأسر والمزارعين مصدرًا مستقلًا بديلًا لمياه الشرب وري الحدائق، في بلد تُهدم فيه الآبار الزراعية وتُردم الينابيع بحجة "عدم الترخيص".
واليوم، يطالب خبراء المياه ببرامج وطنية لإحياء هذه الممارسة، باعتبارها جزءًا من الأمن المائي الفلسطيني، وإعلان صريح أن الفلسطيني قادر على استعادة دورة حياته الطبيعية من المطر إلى الكأس، بعيدًا عن تحكم الاحتلال، إنها مقاومة بيئية صامتة، في خضم حرب إسرائيلية مفتوحة على المياه تشمل منع الحفر، وهدم الآبار، وسرقة المصادر، وقطع الإمدادات.
في إحدى قرى شمال الضفة الغربية، يجسد المواطن أحمد خليل (45 عامًا) هذه التجربة بوضوح، حيث حفر بئرًا في منزله، وغَدت ملاذًا له ولأسرته كلما قُطعت المياه عنهم.
في بيت متواضع يقف خليل إلى جوار بئر حفرها قبل سنوات، يتأملها بفخر كأنها كنز عائلي لا يُقدّر بثمن.
يقول إن البئر في نظره "شريان حياة"، موضحًا: "لم يعد انقطاع المياه من الشبكة حدثًا عابرًا، بل واقعا متكررًا يفرض على الناس البحث عن بدائل تضمن لهم الاستمرارية في حياتهم اليومية".
"الفرق كبير"، يقولها خليل معبرًا عن شعور الاستقلالية والأمان الذي تمنحه البئر إياه، بخلاف المياه القادمة من الشبكة التي تخضع للسيطرة الإسرائيلية ويمكن أن تُمنع في أي لحظة.
ويضيف بنبرة مطمئنة: "بئرنا ملكنا، نلجأ إليها كلما ضاقت بنا السبل".
ومع اشتداد أزمة المياه وتفاقم الاعتداءات الإسرائيلية على المصادر المائية، تبرز البئر المنزلية ركيزةً أساسية لضمان الأمن المائي الفلسطيني، ليصبح ضرورة ملّحة لمواجهة الحرب على المياه.
![]() | ![]() |
| خلال عملية بناء بئر في فناء منزل أحد المواطنين | عامل يعمل على بناء بئر في فناء منزل أحد المواطنين |
تحديات حفر البئر المنزلية
من جهته، يؤكد مأمون أبو ريان، المدير العام لنقابة المهندسين، أن قضية المياه لم تعد شأنا خدميًا فحسب، بل أولوية وطنية وإستراتيجية.
ويقول المهندس أبو ريان: "نحن في نقابة المهندسين ندعم كل التوجهات التي تعزز صمود الناس في مواجهة شح المياه، سواء عبر حفر الآبار المنزلية أم بواسطة تطوير أنظمة حديثة لترشيد الاستهلاك. هذه المنظومة تندرج اليوم ضمن مفهوم المباني الخضراء، التي تعيد استخدام المياه الرمادية وتجمع مياه الأمطار، لتكون صديقة للبيئة وأكثر قدرة على الاستدامة."
لكن الطريق إلى البئر المنزلية ليس سهلاً دائمًا. فتبعًا لحديث أبو ريان "المساحات الضيقة وارتفاع التكلفة من أبرز التحديات التي تواجه الأهالي عند التفكير في حفر بئر".
كما أن أي خطأ في التنفيذ قد يؤدي إلى تسريب المياه أو تلوثها بمياه الصرف الصحي، وهو خطر حقيقي في بعض المناطق، لذلك يشدد على أن إشراف مهندس مختص ليس ترفًا، بل إلزامًا قانونيًا، مستطردًا: "البئر جزء من البناء، وبموجب نظام الأبنية، أي مشروع إنشائي يجب أن يخضع لإشراف هندسي يضمن مطابقة العمل للمخططات والاشتراطات الفنية."
ويلفت أبو ريان إلى أن بعض المطورين العقاريين يحاولون التحايل على القانون، بتقديمهم مخططات تشمل بئرًا للحصول على الترخيص، ثم يتخلون عن تنفيذه لاحقًا لصالح زيادة الاستثمار التجاري.
ويعرب عن أسفه لأن "هذه الممارسات حرمت كثيرًا من السكان من حقهم في الحصول على مصدر مياه آمن ومستقل، ومع ذلك، الرقابة باتت اليوم أشد، وهناك متابعة أكبر لتفادي هذه التجاوزات."
وبدوره، يوجه رسالة للمواطنين قبل أي طرف آخر: "وجود البئر في المنزل ليس مجرد بند قانوني أو ورقة ترخيص، بل هي استثمار طويل الأمد في أمن الأسرة المائي. كل متر مكعب يُجمع من مياه الأمطار يعني تقليل الاعتماد على الشبكة العامة والشركات الإسرائيلية؛ لذلك ندعو كل من يبدأ في بناء منزل أو بناية إلى التعامل مع البئر باعتبارها جزءًا لا يتجزأ من البيت، تمامًا كالمطبخ أو غرفة النوم."
ويعوّل في ختام حديثه على الوعي المجتمعي، فهو الأساس، حسب تعبيره، قائلاً: "القانون يفرض، لكن القناعة الذاتية هي التي تضمن التنفيذ".

المهندسة ريم أبو لطيفة رئيسة قسم التدقالتدقيق في الدائرة الفنية في نقابة المهندسين
| بئر مياه في فناء منزل يستخدمه صاحبه لري الأشجار بسبب عدم انتظام وصول المياه لمنطقته |
رقابة ضعيفة
بين دفاتر المخططات الهندسية وملفات التدقيق، تجلس المهندسة ريم أبو لطيفة، رئيسة قسم التدقيق في الدائرة الفنية في نقابة المهندسين، وتود أن يصل نداؤها للجميع "البئر المنزلية لم تعد رفاهية، بل ضرورة وجودية في فلسطين، لمواجهة تحكم إسرائيل بأغلب مصادر المياه وفرضها قيودًا على الفلسطينيين في استغلالها".
ويأتي تشجيعها للمواطن على خطوة إنشاء بئر منزلي أو زراعي أو صناعي، لهذا السبب: "فلسطين تُصنف من الدول الفقيرة مائيًا، ليس بسبب غياب الموارد الطبيعية، وإنما بسبب سيطرة الاحتلال على المياه الجوفية والسطحية. لذلك؛ من المهم أن يكون لدينا مصدر بديل وأداة إنقاذ".
وتقول أبو لطيفة: "الآبار لا تخدم فقط الأسر في بيوتها، بل هي شريان حياة للمزارعين الذين يحتاجون كميات كبيرة من المياه، وكذلك لمربي الدواجن والأغنام والمواشي؛ كل هذه القطاعات تنهار عند أي انقطاع في المياه إذا لم يكن لديها مخزون ذاتي".
ومن أبرز فوائد الآبار المنزلية، والكلام لها، أنها تخفّف الاعتماد على شبكة المياه العامة، وتتيح استغلال مياه الأمطار الوفيرة في الشتاء لتغطية احتياجات الصيف.
وتردف حديثها قائلة: "هذه المياه مجانية ومصدرها طبيعي، بدلاً من شراء المياه بأسعار باهظة من الشركات الإسرائيلية".
لكن الأهمية الكبرى للآبار تكمن في أنها "حق قانوني ملزم"، مبينة: "ينص نظام الأبنية والتنظيم للهيئات المحلية (قرار مجلس الوزراء رقم 6 لسنة 2011) على أن وجود بئر شرط أساسي في أي مخطط بناء جديد، سواء كان منزل بمساحة 100 متر أم عمارة من عدة طوابق أو حتى مصنع".
وفي هذا السياق، تذكر أنه منذ نحو عام ونصف، بدأت نقابة المهندسين بالتعاون مع وزارة الحكم المحلي في إلزام المخططات الهندسية كافة، بتضمين بئر لتجميع مياه الأمطار، وأي مخطط يُقدم دون بئر يُعاد فورًا لاستكماله".
وتكشف م. أبو لطيفة أن المشكلة لم تعد في النصوص القانونية، بل في ضعف الرقابة في أثناء التنفيذ. فبينما تفرض النقابة وجود البئر على الورق، تبقى متابعة التنفيذ مسؤولية جهات الترخيص والبلديات، لافتة إلى أن "بعض المالكين يفضلون دفع غرامة بسيطة بدلاً من تشييد البئر، وهنا يضيع الهدف الأساسي".
وترى أن الهندسة توفر حلولاً مرنة، فهناك نوعان من الآبار؛ البئر التقليدية المسلحة المقاومة للتسريب، والبئر "النجاصة" التي تُحفر في الصخور، وتُعد أبسط وأقل كلفة، لكنها فعالة في حفظ المياه.
"هذه الخيارات، "تجعل البئر ممكنًا حتى في الأراضي ذات المساحات الصغيرة أو الكلفة المحدودة" كما تقول.
وتختم برسالتين، الأولى إلى الجهات المرخصة بضرورة متابعة التنفيذ بحزم وعدم الاكتفاء بالمخططات، والثانية إلى المواطنين: "البئر ليست عبئًا ماليًا إضافيًا، بل استثمارًا في أمنك المائي. ففي بلد مثل فلسطين، قد تُقطع المياه في أي لحظة، البئر ليست خيارًا ثانويًا، بل صمام أمان لمستقبل العائلات والمجتمع".

الدكتور عبد الرحمن التميمي المدير العام لمجموعة الهيدرولوجيين الفلسطينيين
شبكة صمود صامتة
في مكتبه المزدحم بالخرائط والدراسات المائية، يفتح د. عبد الرحمن التميمي، المدير العام لمجموعة الهيدرولوجيين الفلسطينيين، ملفًا يتجاوز مجرد نقص المياه، تتجلى فيه حرب إسرائيلية ممنهجة على الوجود الفلسطيني.
يعدّ التميمي واقع المياه في الأراضي الفلسطينية استمرارًا لسياسات إسرائيلية بدأت منذ اليوم الأول للاحتلال عام 1967"، موضحًا أن أوامر عسكرية صدرت آنذاك وضعت كل مصادر المياه تحت السيطرة الإسرائيلية. حتى اتفاق أوسلو– الذي أرجأ مفاوضات المياه إلى قضايا الحل النهائي– لم يغير شيئًا، بل أبقى الفلسطينيين رهائن لهذه السيطرة، وفق التميمي.
ويزيد بالقول: "أكثر من 80% من مصادر المياه في الضفة الغربية اليوم بيد إسرائيل، بينما تتحكم السلطة الفلسطينية بأقل من 20% المتبقية".
ويضيف: "المستوطنات تحظى بآبار عميقة وضخمة حُفرت على حساب الفلسطينيين الذين يخضعون لأسعار تحدّدها شركة (ميكوروت) الإسرائيلية على أساس تجاري".
النتيجة، حسب أرقامه، أن 60% من الفلسطينيين غير آمنين مائيًا، وأن نحو 13% لا تصلهم المياه إلا مرة واحدة أسبوعيًا بمعدل استهلاك متدنٍ لا يتجاوز 15 لترًا للفرد يوميًا.
أمام هذا الواقع، يرى التميمي أن "عودة الآبار المنزلية تشكل ملاذًا إستراتيجيًا، فهي ليست مجرد مصدر بديل للمياه، بل خزان أمان سياسي وبيئي"، معتبرًا هذا التوجه بمثابة "شبكة صمود صامتة" في وجه محاولات الاحتلال إحكام قبضته على كل قطرة.
ويمضي في حديثه: "علينا أن نتعلم من درس غزة، حين قطعت إسرائيل المياه عن الناس شربوا مياهاً غير صالحة. هذا السيناريو قد يتكرر في الضفة، ومن هنا تبرز أهمية بئر تجمع مياه المطر داخل كل منزل، فهي مصدر آمن، وتكلفتها شبه صفرية
التشريعات ليست غائبة، وإنما غير مطبقة، وفي هذا الصدد يخبرنا: "منذ الحكم الأردني كان هناك قانون يلزم كل بيت تزيد مساحته على 300 متر مربع ببناء بئر لجمع مياه الأمطار، وفي قانون الأبنية الفلسطيني لعام 2011، النص ذاته قائم، لكن البلديات تتساهل، إذ يفضّل المواطن دفع غرامة زهيدة بدلًا من إنشاء البئر، ثم يتحول موقعها إلى كراج أو مخزن".
جدير بالذكر أن مجموعة الهيدرولوجيين الفلسطينيين عملت نحو 30 عامًا في مجال الحصاد المائي، ودعمت أكثر من 15 ألف بئر وبِركة زراعية لجمع مياه الأمطار.
ويختم مديرها العام حديثه قائلًا: "بلغ العجز المائي في الضفة الغربية 272 مليون متر مكعب سنويًا، لكنه عجز ليس لغياب الموارد، بل نتيجة مباشرة لسياسات إسرائيل؛ لذلك، إعادة الاعتبار للبئر المنزلي ليست مجرد حنين إلى الماضي، بل خيار بقاء للمستقبل".
إذن، وبعد هذه الجولة، فإن البئر في فناء المنزل ليست مجرد حفرة، بل رمزًا للتمسك بحق الحياة في مواجهة محاولات العطش القسري، بئر في فناء البيت، تحفظ ماء السماء، وتحفظ معه معنى الحرية.



No comments:
Post a Comment