الأراضي المقدسة الخضراء / GHLand
من موقع التجربة بمصر، تُظهر الصورة جزءًا من نظام أراضٍ رطبة مصطنعة مزروع بالبردي لمعالجة المياه. حقوق
الصورة:د. محمد الحجري
اصطنع باحثون مصريون نظامًا يحاكي أرضًا رطبة؛ لتجربة أحد الحلول المستوحاة من الطبيعة في تنقية المياه من التلوث ومعالجتها.
بعد التصميم الأولي لهذا النظام التجريبي، من دون استخدام النباتات، يجري الآن تنفيذ ثاني مراحله بالصحراء الشرقية، وتتألف المرحلة الثانية من أرض رطبة هجينة، مزروعة بنبات البردي.
الأرض، التي تعمل مرشحًا طبيعيًّا، صممها فريق بحثي، يقوده محمد السيد الحجري، من مركز بحوث الصحراء بمصر، وتم التصميم وفقًا لشركاء البحث في المعهد الوطني للتميز في علوم البيئة، التابع لجامعة آرهوس.
وإطار التنفيذ، مشروع ممول من الاتحاد الأوروبي، ويُنفذ بواسطة 14 شريكًا من عدة دول أوروبية إلى جانب مصر وكولومبيا، بمشاركة جهات بحثية وأكاديمية متخصصة في إدارة المياه.
المشروع يحمل اسمًا مختصرًا هو 'نايس’، مضمونه ”تقديم حلول مبتكرة ومحسّنة قائمة على الطبيعة لمياه حضرية مستدامة“.
وعليه، فالمستهدف هو معالجة أنواع متعددة من المياه، تشمل مياه الصرف الصحي، والمياه الرمادية، ومياه الأمطار، ومياه الأنهار، وفق الخصائص البيئية والمناخية لكل بلد مشارك.
النظام المصطنع يمكنه معالجة مياه الصرف الصحي أو الصناعي أو الزراعي، بمحاكاة العمليات التي تجري بالأراضي الرطبة مثل المستنقعات والبحيرات الضحلة، باستخدام النباتات ومكونات التربة والكائنات الحية الدقيقة لتنقية المياه من الملوثات.
ويوضح الحجري لشبكة SciDev.Net أن المشروع المصري يعتمد على أحواض مملوءة بطبقات من الحصى والرمل تُزرع فيها نباتات البردي.
جدير بالذكر أن البردي أثبتت دراسات علمية على مدى السنوات الماضية كفاءته العالية في إزالة عدد من الملوثات الشائعة الموجودة في مياه الصرف الصحي، وخاصةً المعادن الثقيلة.
وكفاءة الأرض الرطبة الاصطناعية المزروعة بالبردي أعلى من كفاءتها من دون هذا النبات، وذلك بفضل إفرازات جذور البردي التي تُقلل من أعداد بكتيريا الإشريكية القولونية والسالمونيلا، التي تُعاني مياه نهر النيل التلوث الميكروبي بهما.
“تمر المياه عبر الطبقات ببطء، فتعمل الكائنات الدقيقة على تحليل الملوثات العضوية، بينما تمتص النباتات العناصر الضارة مثل النيتروجين والفوسفور، وتقوم الطبقات الرملية بترشيح المياه وتنقيتها…”.
كذلك يسهم النظام بأكمله في إزالة المعادن الثقيلة والأيونات الموجبة والسالبة، وتقليل الملوحة.
ويؤكد الحجري أن تصميم النظام لا يسبب أي ضرر للتربة المقام عليها، “أسفل كل حوض طبقة عازلة غير منفذة للمياه، إما من مواد بلاستيكية قوية أو من طين مضغوط، تمنع أي تسرب إلى التربة أو المياه الجوفية”
"والمياه تمر بسلسلة من عمليات الترشيح والتحلل الحيوي، مما يحافظ على سلامة الأرض ويحول المنطقة إلى نظام بيئي أخضر يزدهر بالنباتات والطيور".
ويشير الحجري إلى أن التجربة المصرية تركز على معالجة المياه السطحية المستخدمة في الري والمأخوذة من الترع والمصارف بالمنطقة القريبة من موقع التنفيذ.
وأوضح أن النظام التجريبي أظهر معدلات مرتفعة في إزالة هذه الملوثات البكتيرية، تقترب من 100%، بقدرة معالجة تصل إلى 15 مترًا مكعبًا يوميًّا، وهي كمية تكفي لري فدان من الأرض الزراعية.
ويربط الحجري نتائج التجربة بطبيعة الموقع الذي أقيمت عليه، موضحًا أن منطقة جمعية أحمد عرابي بطريق مصر-الإسماعيلية الصحراوي، ذات أنشطة إنتاج داجني تعتمد على المياه المتفرعة من نهر النيل الملوثة بالبكتيريا، ما اضطر المنتجين إلى استخدام مياه الشرب المعالجة، الأعلى تكلفةً بأضعاف مضاعفة من مياه النيل غير المعالجة، مما يزيد من أعباء الإنتاج.
"هدفنا كان إيجاد حل بيئي منخفض التكلفة وآمن صحيًّا، يمكن الاعتماد عليه في الري والإنتاج الداجني دون الإضرار بالمحاصيل أو الثروة الحيوانية"، وفق الحجري.
ويؤكد الحجري أن الفريق البحثي بصدد اصطناع أرض جديدة تتعامل مع مياه الصرف الصحي، لتوسيع نطاق التطبيق العملي لهذه التقنية الواعدة.
استقطاع مساحة من الأرض لاصطناع أراضي المعالجة لا يُعد إهدارًا، وفق الحجري، لأن النباتات المستخدمة ذات قيمة اقتصادية، مثل نبات البردي المستخدم في صناعة الورق، وبذا تتحقق منفعة مزدوجة.
وتأتي هذه التجربة في وقت تتجه فيه مؤسسات إقليمية إلى التوسع في الحلول المستندة إلى الطبيعة في إطار إستراتيجيات التكيُّف مع تغيُّر المناخ وتحسين إدارة المياه.
ثمة تقرير إقليمي حديث صادر عن مركز البيئة والتنمية للإقليم العربي وأوروبا (سيداري)، يشير إلى أن هذه الحلول تمثل مسارًا واعدًا لتحسين إدارة المياه بمصر، وتقليل الضغوط على الموارد التقليدية، لا سيما في المناطق الحضرية والمناخات الجافة.
ورغم ما يتيحه نظام الأراضي الرطبة الاصطناعية من مزايا بيئية واقتصادية، فإن تعميمه على نطاق واسع في مصر ما زال يواجه بعض التحديات التقنية والمناخية.
"النظام وإن كان فعالًا للغاية في إزالة الملوثات العضوية، والعكارة، والبكتيريا”، كما يسلم خالد أبو الشربيني، الأستاذ بقسم الكيمياء غير العضوية بالمركز القومي للبحوث في مصر، لكنه “أقل كفاءةً في التخلص من المعادن الثقيلة، والأملاح الذائبة، والمركبات العضوية الثابتة مثل المبيدات ومشتقات البترول"، ما يستدعي أحيانًا دمجه مع تقنيات معالجة إضافية لرفع كفاءته.
"والمياه الراكدة بالأحواض السطحية قد تتحول إلى بيئة مناسبة لتكاثر البعوض إذا لم تجرِ إدارة هذه الأنظمة وصيانتها بانتظام"، مؤكدًا أن الإدارة الدقيقة شرط أساسي للحفاظ على فعاليتها البيئية والصحية.
ويلفت إلى أن “الظروف المناخية الصحراوية في مصر تمثل تحديًا إضافيًّا، إذ قد تؤدي درجات الحرارة المرتفعة إلى تبخُّر كميات كبيرة من المياه داخل الأحواض”، مما يقلل من كفاءة النظام اقتصاديًّا.
يقول أبو الشربيني لشبكة SciDev.Net: "النظام حساس لتغيُّرات المناخ، لأن النباتات الرطبة المستخدمة فيه، مثل البردي، تحتاج إلى توافر رطوبة مستمرة"، موضحًا أن مدد الجفاف الطويلة قد تؤدي إلى ذبول النباتات وفقدان جزء من قدرتها على المعالجة.
هذه التحديات، من وجهة نظر أبو الشربيني، لا تنتقص من أهمية النظام، لكنها تسلط الضوء على ضرورة تكييف تصميمه مع طبيعة المناخ المصري.
بدوره لا يماري الحجري في هذه التحديات، لا سيما ما يتعلق بإزالة المعادن الثقيلة والأملاح الذائبة، موضحًا أنه تجرى حاليًّا اختبارات على أنواع مختلفة من المواد المُمتزّة مثل الكربون المنشط، والفحم، والزيولايت، والبازلت، وكسر الرخام، لقياس كفاءتها في الامتصاص، وعندما تصل هذه المواد إلى مرحلة التشبع، يتم استبدالها بوسائط جديدة عالية الكفاءة لضمان استمرار فاعلية النظام.
أما بالنسبة للمبيدات ومشتقات البترول وبقايا الأدوية، فيوضح الحجري أنها قيد الدراسة بمشروع “نايس”، الذي نجح في تحقيق نتائج واعدة في بعض الأنظمة التجريبية الأخرى، بينما تتواصل البحوث لرفع كفاءة التخلص من هذه الملوثات المعقدة.
ويشير الحجري إلى أن ركود المياه -وهو من أبرز التحديات المعروفة في أنظمة الأراضي الرطبة، كما في حقول الأرز- يتم التغلب عليه بتقليل مدد التخزين إلى نحو 24 ساعة فقط، ما يحد من فرص تكاثر البعوض.
أما فيما يتعلق بتأثير درجات الحرارة المرتفعة، فيوضح الحجري أن معدل التبخُّر يكون أكبر في الأنظمة الخالية من النباتات، أما في المزروعة فتُدرج كميات المياه المتبخرة ضمن المقنن المائي للنباتات المعالِجة، ما يجعل التأثير محدودًا ويمكن التحكم فيه بيئيًّا وهيدرولوجيًّا.
المصدر: هذا الموضوع أنتج عبر المكتب الإقليمي لموقع SciDev.Net بإقليم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا
No comments:
Post a Comment