الأراضي المقدسة الخضراء / GHLands
في ظل الواقع البيئي المعقد الذي تعيشه فلسطين، تتشابك الأبعاد البيئية مع السياسية والإنسانية، لتكوّن مشهدًا فريدًا على مستوى الإقليم والعالم. فالبيئة هنا لا تواجه فقط تهديدات التلوث وتغير المناخ والنفايات، بل تتعرض أيضًا لأضرار منهجية بفعل الاحتلال الإسرائيلي، الذي يمسّ المقومات الأساسية للحياة من مياه وأراضٍ وهواء وتنوع حيوي. وبهذا، تتحول البيئة الفلسطينية إلى ساحة نضال وطني تتطلب استجابة شاملة ومتكاملة، على المستويين الرسمي والمجتمعي.
وفي مواجهة هذه التحديات، تقف سلطة جودة البيئة في موقع الطليعة، باعتبارها الهيئة الوطنية المسؤولة عن حماية البيئة وتنظيم شؤونها. وفي هذا الإطار، تتحدث الدكتورة نسرين التميمي، رئيسة السلطة، عن السياسات البيئية، وواقع التشريعات، وخطط التكيف المناخي، إلى جانب جهود التوعية البيئية، وموقع البيئة في معركة البقاء والتحرر.
استراتيجية بيئية طموحة وسط تحديات مضاعفة
تؤكد التميمي أن البيئة الفلسطينية ليست مجرد خلفية طبيعية، بل ركيزة أساسية في مشروع الصمود والتحرر. ومن هذا المنطلق، وضعت سلطة جودة البيئة استراتيجيتها القطاعية للأعوام 2025–2027، والتي ترتكز على خمسة أهداف رئيسية، منها:
-
الحد من التلوث وتعزيز الرقابة البيئية، حيث أُجريت أكثر من 1890 جولة تفتيش خلال عام 2024.
-
حماية التنوع الحيوي عبر مسح شامل لمواقعه تمهيدًا لإنشاء خريطة وطنية للإدارة المستدامة للموارد.
-
تعزيز القدرة على التكيف مع تغير المناخ، عبر تحديث تقرير المساهمات المحددة وطنيًا (NDCs-3)، بما ينسجم مع اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية لتغير المناخ.
كما تعمل السلطة على تطوير الإطار التشريعي والمؤسسي، من خلال إعداد مشروع قانون بيئي جديد وتحديث القوانين القائمة، بما يتواكب مع التطورات الدولية والتقنية. وتُعزز في الوقت ذاته الشراكات الإقليمية والدولية ضمن مسار الدبلوماسية البيئية الفلسطينية.
وفي مجال التوعية، أطلقت السلطة العديد من المبادرات التي تستهدف فئات متعددة، بالشراكة مع مؤسسات التعليم والمجتمع المدني، وأصدرت تقارير نوعية تعالج قضايا مثل الشراء العام المستدام، هدر الطعام، والنفايات الإلكترونية، بهدف بناء سياسات بيئية تستند إلى المعرفة والبيانات الدقيقة.
في فلسطين، لا تنفصل القضايا البيئية عن الواقع السياسي والإنساني، بل تتقاطع معه بشكل حاد، ما يجعل الوضع البيئي فيها حالة استثنائية على مستوى المنطقة والعالم. فالبيئة الفلسطينية تواجه تحديات متراكبة، تبدأ من آثار تغير المناخ والتلوث وتراكم النفايات، ولا تنتهي عند حدود الاحتلال الإسرائيلي، الذي يطال بكثافة الأرض والمياه والهواء وحتى التنوع الحيوي. وبهذا، تصبح حماية البيئة في فلسطين جزءًا لا يتجزأ من النضال الوطني، وساحة تستدعي استجابة عاجلة، رسمية ومجتمعية.
وفي ظل تصاعد الانتهاكات البيئية التي تُمارَس على يد الاحتلال، تتولى سلطة جودة البيئة دورًا محوريًا في الدفاع عن حق الفلسطينيين في العيش ضمن بيئة آمنة ونظيفة. ومن خلال هذا اللقاء مع الدكتورة نسرين التميمي، رئيسة السلطة، نسلط الضوء على السياسات البيئية الحالية، واقع التشريعات، الاستعدادات لمواجهة تغير المناخ، ودور المواطن في حماية بيئته، إلى جانب تقييم شامل لدور السلطة كمؤسسة وطنية مسؤولة عن التخطيط والتنظيم والرقابة البيئية في كافة المحافظات.
رؤية استراتيجية ومسؤولية وطنية
تعتبر الدكتورة نسرين التميمي أن البيئة الفلسطينية تمثل أحد ركائز الصمود وأداة استراتيجية لتعزيز الاستقلال الوطني. وانطلاقًا من هذه الرؤية، شرعت السلطة في تنفيذ استراتيجيتها القطاعية للأعوام 2025–2027، والتي تقوم على خمسة أهداف محورية، أبرزها:
-
مكافحة التلوث وتعزيز الرقابة على المنشآت ذات التأثير البيئي، حيث نفذت طواقم التفتيش أكثر من 1890 جولة ميدانية خلال عام 2024.
-
حماية التنوع الحيوي من خلال مسح شامل لمواقعه، تمهيدًا لوضع خريطة وطنية تضمن إدارة مستدامة للموارد الطبيعية.
-
رفع القدرة على التكيف مع التغير المناخي والحد من التصحر والاستعداد للأزمات البيئية، وذلك ضمن إطار إعداد النسخة الثالثة من التقرير الوطني للمساهمات المحددة وطنيًا (NDCs-3) بالتوافق مع اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ.
كما شرعت السلطة في تحديث الإطار التشريعي البيئي، عبر إعداد مشروع قانون بيئي جديد وتعديل التشريعات القائمة لتكون أكثر مواءمة مع التطورات العالمية. هذا إلى جانب توسيع نطاق الشراكات الدولية، وتفعيل الدبلوماسية البيئية الفلسطينية.
ولم تغفل السلطة جانب رفع الوعي البيئي وتعزيز السلوك المجتمعي الإيجابي، حيث أطلقت مبادرات توعوية بالشراكة مع المؤسسات التعليمية والمجتمع المدني، وأصدرت تقارير مرجعية متخصصة، مثل تقرير الشراء العام المستدام، وهدر الطعام، والنفايات الإلكترونية، في إطار سعيها نحو سياسات بيئية قائمة على المعرفة والأدلة.
غزة تحت نيران الإبادة البيئية: تدمير شامل للموارد وتوثيق لممارسات الاحتلال
منذ اندلاع العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة في 7 أكتوبر 2023، يواجه القطاع كارثة بيئية غير مسبوقة، طالت عناصر الحياة الأساسية من ماء وهواء وتربة، وصولاً إلى البنية التحتية وسبل العيش. الدمار الواسع لا يقتصر على الخسائر المادية، بل يُهدد صحة الإنسان والنظام البيئي بأكمله، فيما تصف سلطة جودة البيئة ما يجري بأنه "إبادة بيئية ممنهجة".
استجابة لهذا الواقع، أعدّت السلطة تقريرًا تقنيًا شاملًا يوثّق الأضرار، بالتعاون مع جهات محلية ودولية، وقدمت طلبًا رسميًا إلى برنامج الأمم المتحدة للبيئة لتشكيل فريق دولي لتقييم آثار العدوان، رغم أن الاحتلال ما زال يمنع دخول هذا الفريق إلى القطاع. كما شاركت السلطة في إعداد خطة إنعاش وإعادة إعمار غزة بالتنسيق مع البنك الدولي والأمم المتحدة، وشكّلت فرقًا فنية للتعامل مع التلوث، وإدارة النفايات، وتقييم المياه والهواء والتربة.
الاحتلال والتلوث البيئي: تهديد ممنهج وواقع استعماري متجدد
في الضفة الغربية، تتعامل سلطة جودة البيئة مع مشكلة التلوث الناجم عن نفايات الاحتلال باعتبارها انتهاكًا بيئيًا واستعماريًا معقدًا. وتفيد التحقيقات بأن أكثر من 40% من تهريب النفايات مصدره إسرائيل، وتُستخدم مناطق قرب الخط الأخضر كمكبات عشوائية لنفايات خطرة دون رقابة. كما أنشأ الاحتلال منشآت لمعالجة نفايات صناعية وطبية وكيميائية دون إذن فلسطيني.
تقوم فرق التفتيش البيئي، التي تتمتع بصفة الضبطية العدلية، بضبط المخالفات وتحويل المتورطين للقضاء، رغم التحديات في المناطق المصنفة (ج). كما تنفّذ السلطة حملات توعية مجتمعية لمواجهة هذا التلوث وتعزيز الرقابة الشعبية، ضمن استراتيجية وطنية تقوم على الردع والحماية البيئية.
تشريعات وخطط وطنية: نحو منظومة بيئية فلسطينية مستقلة
رغم التحديات، أطلقت سلطة جودة البيئة سلسلة من المشاريع الاستراتيجية التي تهدف إلى حماية البيئة وتطوير البنية التشريعية، أبرزها إصدار أنظمة جديدة لإدارة النفايات الخطرة وتعليمات بيئية خاصة بالتنوع الحيوي. كما تم إصدار التقرير الأول لحالة البيئة في فلسطين عام 2023، والذي وثّق الواقع البيئي بمؤشرات علمية دقيقة.
تتبنى السلطة مفاهيم الاقتصاد الأخضر والدائري، وتعمل على دمجها في الخطط الوطنية بالتنسيق مع القطاع الخاص، إلى جانب دعم مبادرات شبابية ونسوية بيئية عبر برنامج المنح الصغيرة التابع لمرفق البيئة العالمي (GEF).
الطاقة المتجددة: خيار استراتيجي لتعزيز السيادة البيئية
في إطار تقليل التبعية وتعزيز الاستقلال البيئي، تعمل السلطة على توسيع مشاريع الطاقة النظيفة، بالتعاون مع الجهات الوطنية والدولية. وقد حصلت فلسطين على تمويل من صندوق المناخ الأخضر لتنفيذ مشاريع مستدامة، تأخذ في الحسبان البعد المكاني وتراعي حماية الأراضي الزراعية والمناطق البيئية الحساسة.
نحو زراعة ذكية ومستدامة
تعمل السلطة بالتعاون مع وزارة الزراعة على إدماج البُعد البيئي في السياسات الزراعية، وتوجيه الزراعة نحو استراتيجيات مرنة تتعامل مع التغير المناخي وشح المياه، بهدف صون التربة ومنع التصحر.
التمثيل الدولي: حماية البيئة كحق سيادي
ترى سلطة جودة البيئة أن التحديات البيئية الفلسطينية لا تنفصل عن النضال السياسي، وتشارك فلسطين في المحافل الدولية لطرح قضاياها من منظور حقوقي وسيادي. وتعتبر التمويل المناخي حقًا لشعب تحت الاحتلال، وليس منحة مشروطة، وقد انضمت فلسطين إلى صندوق المناخ الأخضر وتعمل على استكمال الانضمام لصندوق التكيّف.
كما تشارك فلسطين رسميًا في مؤتمرات المناخ (COP) وتُقدّم أوراقًا تفاوضية في ملفات تمويل التكيّف والخسائر والقدرات، وتسعى لبناء جيل من المفاوضين البيئيين الشباب.
البيئة كجبهة تحرر وطني
تؤكد سلطة جودة البيئة أن حماية البيئة جزء من مشروع التحرر الفلسطيني، وأن حماية الموارد والإنسان تتطلب نظامًا وطنيًا متكاملًا يربط بين السيادة والاستدامة. ولهذا، تُبنى السياسات والتشريعات بالتوازي مع تفعيل أدوات الرقابة، وتوسيع الشراكات، وتمكين المجتمعات من حماية بيئتها.
خطة استراتيجية 2025–2027: البيئة كأولوية تنموية
أعدت السلطة مسودة خطة استراتيجية بيئية للسنوات القادمة، تركّز على إدماج البيئة في قطاعات الزراعة والطاقة والصناعة والصحة والتعليم، وتطوير نظام تقييم بيئي وطني حديث، ومراجعة القوانين المحلية لتنسجم مع الاتفاقيات الدولية البيئية.
وتختم السلطة رسالتها بأن البيئة الفلسطينية ليست ملفًا تقنيًا فحسب، بل قضية سيادة وكرامة، وميدان من ميادين الصمود الوطني، لا تنفصل عن حق الفلسطينيين في الحياة، والحرية، والعدالة.
No comments:
Post a Comment