الأراضي المقدسة الخضراء / GHLands
يوميا يفقد العشرات من الأطفال والشيوخ والشعب الفلسطيني أرواحهم في غزة نتيجة الجوع، وبعد تأخير لأكثر من 23 شهر من العدوان الإسرائيلي والإبادة الجماعية لشعب غزة واستخدام التجويع كسلاح للقتل والتهجير والتطهير العرقي، أعلنت الأمم المتحدة رسمياً المجاعة في قطاع غزة.
ولا يمر يوم إلا ويتم إعلان شهداء جراء عدم الحصول على طعام لأيام واسابيع، مع مواجهة أكثر من 2 مليون فلسطيني خطر الجوع بينهم ما قدرته الأمم المتحدة بنصف مليون يواجهون الجوع “الكارثي”، بعد شهور من التحذيرات المتصاعدة من منظمات الإغاثة والخبراء بشأن التدهور الحاد في الأوضاع الإنسانية داخل القطاع.
مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان فولكر تورك ذكر أن المجاعة في غزة هي نتيجة مباشرة لأفعال قامت بها الحكومة الإسرائيلية التي فرضت قيودا، بشكل غير قانوني، على دخول وتوزيع المساعدات الإنسانية والبضائع الضرورية لبقاء السكان المدنيين في قطاع غزة على قيد الحياة.
وقال إن “الجيش الإسرائيلي دمر بنية أساسية حيوية وجميع الأراضي الزراعية تقريبا وحظر الصيد وهجر السكان قسرا، وكل ذلك عوامل في هذه المجاعة”.
ويعاني عشرات الآلاف من الأطفال دون الخامسة والنساء الحوامل أو المرضعات من سوء تغذية حاد، كما في السودان حيث دفعت النزاعات وتقييد وصول المساعدات الإنسانية الملايين إلى حافة المجاعة مع تحذيرات متزايدة من خطر المجاعة.

فما هو الجوع، وماذا يحدث لجسم الإنسان عند حرمانه من الطعام؟ وكيف يستهلك الجسم نفسه للبقاء؟ وما هي المراحل المميتة التي يمر بها الجسم؟ وما الحد الأدنى من التغذية الذي يهدد حياة الإنسان أو يعرضه للوفاة نتيجة نقص الغذاء؟ ومتى يمكن أن يستعيد الجسم نشاطه وحيويته حال حصل على الغذاء بعد المجاعة؟ كل هذه الأسئلة نحاول الإجابة عليها في التقرير التالي…

وفقا للتعريفات العلمية، فالجوع حالة طيفية تبدأ بانعدام الأمن الغذائي، حيث يضطر الناس إلى تقليل وجباتهم، ومع ندرة الطعام يستهلك الجسم احتياطاته الداخلية، تبدأ رحلة الجوع بانخفاض الطاقة، ثم تفكك الدهون، فعضلات الجسم، وصولًا إلى فشل الأعضاء الحيوية.
من سوء التغذية إلى سوء التغذية الحاد وأخيرًا المجاعة، تصل العملية إلى مرحلة يعجز فيها الجسم عن البقاء.
ويشرح الأطباء والمختصون وخبراء التغذية الأسباب العلمية وراء المجاعة وما يحدث للجسم عند حرمانه من الطعام.

الحد الأدنى من التغذية اللازمة للبقاء
للبقاء يحتاج الإنسان أكثر من الماء النظيف والأمان، الحصول على غذاء يلبّي احتياجات الطاقة والمغذيات الكبرى والصغرى أمر أساسي للحفاظ على الصحة ودعم التعافي ومنع سوء التغذية.
تقول منظمة الصحة العالمية إن احتياجات الطاقة اليومية تختلف بحسب العمر والجنس ومستوى النشاط البدني، والكيلوكالوري (kcal) وحدة لقياس الطاقة التي يحصل عليها الجسم من الطعام أو يحتاجها ليؤدي وظائفه الحيوية مثل التنفس والهضم والحفاظ على درجة الحرارة، وخاصة لدى الأطفال للنمو.
تأتي احتياجات الطاقة من ثلاثة مصادر:
- الإنفاق الطاقي في حالة الراحة: وهو الطاقة التي يستخدمها الجسم للحفاظ على وظائفه الحيوية مثل التنفس والدورة الدموية.
- النشاط البدني: ويتغير في الأزمات حسب النزوح أو أعمال الرعاية أو مهام البقاء.
- التوليد الحراري: الطاقة اللازمة لهضم ومعالجة الطعام.

يمثل الإنفاق الطاقي في حالة الراحة الجزء الأكبر من الاحتياجات خاصة عند محدودية النشاط البدني. وتشمل عوامل أخرى مؤثرة العمر والجنس والحجم والحالة الصحية والحمل أو البيئة الباردة.
تتغير احتياجات الطاقة مع العمر، يحتاج الرضيع 95 إلى 108 سعرًا حراريًا لكل كيلوجرام يوميًا في أول ستة أشهر، و84 إلى 98 سعرًا حراريًا لكل كيلوجرام بين ستة و12 شهرًا.
ويحتاج الطفل البالغ عامين نحو 1000 إلى 1200 سعرة يوميًا، وطفل الخامسة نحو 1300 إلى 1500، وطفل العاشرة 1800 إلى 2000 سعرحراري يوميًا.
ابتداءً من سن العاشرة تبدأ الفروق بين الجنسين في الظهور حسب النمو والنشاط.
يحتاج البالغون ذوو النشاط الخفيف أو المتوسط إلى نحو 2900 سعر يوميًا للرجال بين 19 و50 عامًا، ونحو 2200 سعر يوميًا للنساء في العمر نفسه، وتقل الاحتياجات قليلًا بعد الخمسين.
في الطوارئ الإنسانية يجب أن توفر المساعدات الغذائية الحد الأدنى المعتمد عالميًا وهو 2100 سعر حراري للفرد يوميًا للحفاظ على الصحة الأساسية ومنع سوء التغذية.
يجب أن تأتي هذه الطاقة من توازن المغذيات الكبرى : 50% إلى 60% من الكربوهيدرات (مثل الأرز والخبز)، 10% إلى 35% من البروتينات (كالبقوليات أو اللحوم الخالية من الدهون)، و20% إلى 35% من الدهون (مثل الزيوت أو المكسرات).
تكون حاجة الدهون أعلى لدى الأطفال الصغار (30% إلى 40%) وكذلك لدى النساء الحوامل والمرضعات (على الأقل 20%).
بالإضافة إلى الطاقة يحتاج الجسم إلى الفيتامينات والمعادن مثل الحديد وفيتامين A واليود والزنك الضرورية للمناعة والنمو وتطور الدماغ.

ما الذي يحدث جسديًا أثناء المجاعة؟
تظهر آثار المجاعة في ثلاث مراحل متداخلة تمثل محاولات الجسم للبقاء دون طعام:
- المرحلة الأولى (حتى 48 ساعة): يستخدم الجسم الغليكوجين المخزن في الكبد للحفاظ على مستوى السكر في الدم.
- المرحلة الثانية: يبدأ الجسم إنتاج الغلوكوز من مصادر غير كربوهيدراتية مثل الأحماض الأمينية (من العضلات) والغليسرول (من الدهون) واللاكتات، ما يؤدي إلى تفكك العضلات وزيادة فقدان النيتروجين.
- المرحلة الثالثة (اليوم الثالث فصاعدًا): يبدأ الكبد بتحويل الأحماض الدهنية إلى أجسام كيتونية تُستخدم كوقود بديل، ما يساعد على إبطاء فقدان العضلات لكنه يشير إلى أزمة أيضية أعمق.

تتغير الهرمونات ( انخفاض الإنسولين، هرمون الغدة الدرقية T3، نشاط الجهاز العصبي)، فينخفض معدل الأيض لتوفير الطاقة.
ومع نفاد الدهون يبدأ الجسم في تكسير بروتيناته للحصول على الطاقة، ما يؤدي إلى هزال العضلات وضعف المناعة وزيادة خطر العدوى القاتلة.
يحدث الموت غالبًا بعد 60 إلى 70 يومًا دون طعام لدى البالغ السليم.
مع استمرار الحرمان الغذائي تظهر علامات المجاعة مثل فقدان الوزن، هزال العضلات، التعب، بطء ضربات القلب، جفاف الجلد، تساقط الشعر وضعف التئام الجروح.
تتراجع الدفاعات المناعية ما يزيد القابلية للعدوى خاصة الالتهاب الرئوي، وهو سبب شائع للوفاة أثناء المجاعة.

نفسيًا، تسبب المجاعة ضيقًا شديدًا: لامبالاة، عصبية، قلق، انشغال دائم بالطعام، ضعف القدرات المعرفية، اضطراب المشاعر وقد يصل الأمر إلى الاكتئاب أو الانسحاب، لدى الأطفال تشمل الآثار طويلة الأمد قصر القامة وضعف تطور الدماغ وقد تصبح غير قابلة للعكس.
ولا تقف آثار المجاعة عند الفرد بل تفتت الأسر والمجتمعات، مع انخفاض الطاقة يعجز الناس عن رعاية أنفسهم أو غيرهم، وفي أزمات مثل غزة والسودان تتضاعف صدمات العنف والنزوح لتقود إلى انهيار كامل في القدرة على الصمود.

كيفية كسر دورة المجاعة بأمان
بعد فترة مجاعة يصبح الجسم في حالة أيضية هشة، إعادة تقديم الطعام فجأة، خاصة الكربوهيدرات، قد تسبب ارتفاعًا حادًا في الإنسولين وتحولًا سريعًا في الشوارد (الفسفور، البوتاسيوم، المغنيسيوم) إلى الخلايا ما قد يؤدي إلى مضاعفات خطيرة مثل فشل القلب أو ضيق التنفس أو الوفاة فيما يُعرف بمتلازمة إعادة التغذية.

تبدأ البروتوكولات القياسية بحليب علاجي يسمى F-75 مصمم خصيصًا لاستقرار المرضى في المرحلة الأولى من علاج سوء التغذية الحاد، يتبعه غذاء علاجي جاهز مثل معجون أو بسكويت غني بالفول السوداني قادر على إنقاذ الطفل في غضون 4 إلى 8 أسابيع، إضافة إلى أملاح الإماهة الفموية ومساحيق المغذيات الدقيقة، ويجب أن تصل هذه التدخلات بأمان، فالوصول الإنساني المستمر أمر حاسم.
No comments:
Post a Comment