الأراضي المقدسة الخضراء / GHLands
في خطوة تصعيدية جديدة تعد من أخطر سياسات التهويد المتصاعدة في الضفة الفلسطينية المحتلة، صادقت سلطات الاحتلال الإسرائيلي على قرار كارثي يقضي بمصادرة نحو 1800 دونم من أراضي بلدة سبسطية شمال غرب نابلس، وتحويلها إلى ما يسمى "موقع أثري إسرائيلي" ضمن مخطط مشروع استيطاني جديد يحمل اسم "حديقة السامرة". هذا القرار يمثل تعديا صارخا على الأرض، والإنسان، والتاريخ.
محمد عازم؛ رئيس بلدية سبسطية، أكد في حديث لـ"الحياة الجديدة"، أن القرار الاحتلالي هو "الخطوة الأخطر منذ سنوات"، ويعد ضمن مسار طويل واستكمال واضح لمشروع تهويد البلدة وسرقة موروثها الثقافي، عبر واجهة ما يسمى "مشاريع أثرية زائفة"، في حين أنه في الحقيقة ترجمة ميدانية لقرارات الضم الصادرة عن حكومة الاحتلال.
وقال عازم: "الاحتلال الإسرائيلي لا يحمي الآثار، بل ينهبها. ما يحدث في سبسطية هو سرقة ممنهجة لتراث حضاري يمتد لآلاف السنين، ومحاولة فاضحة لفرض رواية استعمارية على حساب حضارتنا المتجذرة في الأرض".
تجفيف لمصادر الحياة.. مصادرة الأرض وخنق الزراعة والسياحة
وأوضح عازم أن القرار الاحتلالي لا يقتصر على تحويل الأراضي إلى موقع أثري، بل يشمل منع المزارعين من دخول أراضيهم، ما يهدد لقمة عيش مئات العائلات، ويفاقم الأزمة الاقتصادية في البلدة.
وقال: تكمن الكارثة في أن الأرض المصادرة تشمل أهم المناطق الزراعية، خاصة تلك المعروفة بإنتاج الزيتون والمحاصيل الموسمية، إلى جانب مناطق رعوية وسياحية.
وشدد عازم على أن القرار الاحتلالي ليس مجرد اعتداء على الأرض فقط، بل هو جريمة بحق الإرث الحضاري والإنساني، وتزييف ممنهج للتاريخ، ومحاولة لفرض رواية استعمارية بديلة عن حضارة عمرها آلاف السنين، تعاقبت عليها أعظم حضارات العالم.
وقال: "الاحتلال يعمل منذ سنوات على تزوير التاريخ في سبسطية، عبر إدخال رموز وعناصر دخيلة على الموقع الأثري، تتنافى مع طبيعته التاريخية، وذلك بهدف أسرلة الموقع وطمس هويته الفلسطينية".
وقال عنان غزال، أحد المتضررين من القرار الاحتلالي، لـ"الحياة الجديدة" إن ما جرى شكل صدمة كبيرة خاصة عندما علق الاحتلال قرار المصادرة على جدران المنطقة الأثرية دون سابق إنذار، وكأن التاريخ يكتب بقوة السلاح.
وأشار إلى أن المنطقة المسلوبة تعد الشريان الاقتصادي والسياحي للبلدة، لاحتوائها على معالم أثرية فريدة، مثل شارع الأعمدة الروماني، ومعبد أغسطس، ووكنيسة سيدنا يحيى، البازيليكا والمدرج الروماني، وغيرها من المعالم التي تجذب آلاف السياح سنويا.
وأضاف غزال: "الزوار يُمنعون من دخول المواقع، السياحة جُمدت وألغيت المهرجانات، وتوقفت الحجوزات السياحية، وأغلقت ثلاثة موتيلات وتم تجميد استثمارات محلية بالكامل"، وذلك نتيجة التضييق الاحتلالي والتواجد الدائم لجنود الاحتلال، وبسبب إعلان الموقع منطقة عسكرية مغلقة وبدء أعمال حفر وتنقيب غير قانونية بإشراف دائرة الآثار الإسرائيلية.
"من يحمي الآثار لا ينهبها. هذا احتلال يعيد كتابة التاريخ فوق أنقاض الحقيقة، ويرتكب جرائم يومية بحق موروث إنساني عمره آلاف السنين" يقول غزال.
"حديقة السامرة"... مشروع تهويدي مغلف
وحسب عازم، فإن المشروع يندرج ضمن سياسة تهويد المناطق المصنفة "ج" بالكامل، وتضم معظم المواقع الأثرية في البلدة. كما يشمل أراضي منطقة المسعودية ودير شرف، ويستهدف توسيع سيطرة الاحتلال الأمنية على المواقع الأثرية، ما يعتبر توسيعا فعليا لعملية الضم الاستيطاني على الأرض.
وسبقت القرار خطوات تمهيدية، شملت مصادرة أراض لإقامة برج عسكري لجنود الاحتلال داخل الموقع الأثري، وتخصيص أكثر من 33 مليون شيقل لأعمال الحفر والتنقيب والتطوير، يقول عازم.
سرقة التاريخ تحت غطاء "الآثار"
وعبر رئيس البلدية عن أسفه لتقاعس الجهات الدولية، وعلى رأسها منظمة "اليونسكو"، التي لم تتخذ حتى الآن أي موقف حاسم تجاه هذا الانتهاك الصارخ للاتفاقيات الدولية، خصوصا اتفاقية لاهاي لعام 1954، واتفاقية "اليونسكو" لعام 1972، واللتين تنصان على حماية المواقع التراثية من أي أعمال عدائية أو تغييرات قسرية.
وأشار إلى أن أعمال التنقيب الجارية في الموقع تدار بالكامل من قبل الاحتلال، ويتم نقل الآثار المُكتشفة إلى أماكن مجهولة، في عملية سرقة موثقة ومستمرة أمام أنظار العالم.
بينما أكد غزال أن دائرة الآثار الاسرائيلية شرعت بالفعل بأعمال الحفريات في المناطق المصادرة ما يهدد بتدمير المعالم الأثرية وتغيير معالم الموقع لصالح روايات استعمارية. وأضاف: "من يسعى لحماية الآثار لا ينهبها ولا يزور التاريخ، بل يلتزم بالمواثيق الدولية واتفاقيات اليونسكو ومنظمة السياحة العالمية (WTO)".
بلدية سبسطية.. مقاومة رغم الاستهداف
ورغم الضعوط المتزايدة؛ تواصل بلدية سبسطية تحركها على عدة مستويات لمواجهة المشروع الاحتلالي، بما في ذلك المسارين القانوني والشَعبي، حسب عازم؛ الذي أكد أنهم يتواصلون مع منظمات دولية وحقوقية ومنظمات إسرائيلية يسارية.
ويؤكد عازم العمل على تعزيز صمود المواطنين في وجه إجراءات الاحتلال قائلا: "أتحمل مسؤولياتي التاريخية والأخلاقية، رغم الملاحقة والتضييق وسنواصل الدفاع عن تاريخ سبسطية وهويتها الوطنية، بالتعاون مع المجتمع المحلي وفصائل العمل الوطني".
وختم عازم حديثه بتوجيه نداء عاجل إلى المجتمع الدولي، ومنظمات حماية التراث العالمي، داعيا إلى تحرك سريع وفعال لوقف المشروع الاحتلالي الخطير الذي يهدف لتهجير السكان قسريا تحت ستار "الأعمال الأثرية".
"سبسطية ليست موقعا أثريا فحسب، بل رمز للهوية الوطنية، ولن نتخلى عن أرضنا وتراثنا، وسنظل نتمسك بحقنا في روايتنا التاريخية، مهما بلغ حجم الضغط والتضييق" يقول عازم.
مشروع استعماري إحلالي يستهدف اقتلاع الفلسطيني من أرضه
من جانبه، أكد صلاح الخواجا؛ من هيئة مقاومة الجدار والاستيطان، إن سلطات الاحتلال الإسرائيلي تصعد من سياساتها الاستيطانية والتهويدية في الضفة المحتلة، ضمن مخطط ممنهج لفرض أمر واقع جديد يمهد لإعلان رسمي بضم هذه الأراضي تحت مسمى "يهودا والسامرة"، في تجاهل صارخ لكل الحقوق الوطنية والتاريخية المشروعة لشعبنا الفلسطيني.
وقال الخواجا: "هذه السياسات العدوانية لا تكتفي بسرقة الأرض ومواردها الطبيعية من مياه ومراع وثروات، بل تتعدّاها إلى استهداف جوهر الهوية الفلسطينية والعربية، من خلال السيطرة على المقدسات، ونهب المحميات الطبيعية، والأخطر من ذلك، تهويد المواقع الأثرية، في محاولة لفرض رواية مختلفة على حساب التاريخ الحقيقي لفلسطين".
وأضاف: في خطوة خطيرة تكشف عن النوايا الحقيقية للاحتلال، أعلن الوزير الإسرائيلي المتطرف بتسلئيل سموتريتش مؤخرا عن وجود 2,564 موقعا أثريا في الضفة المحتلة، وزعم أنها "مواقع توراتية"، مؤكدا أن هذا الإعلان ليس مجرد تصريح عابر، بل يعد إعلان حرب على التاريخ، ومحاولة سافرة لسرقة الإرث الحضاري الفلسطيني، وفرض رواية توراتية مختلقة لا أساس لها من الصحة.
منطقة سبسطية تعد نموذجا واضحا لهذا الاستهداف الممنهج، حيث تضم نحو 42 معلما أثريا وتاريخيا، تسيطر سلطات الاحتلال على أكثر من 80% منها، وتسعى حاليا للتوسع في ما تبقى عبر مشاريع ترميم مشبوهة وفرض الهيمنة عليها، في مسعى لتزييف الحقائق التاريخية، وترويج الرواية الصهيونية في المحافل الدولية.
ويتابع: ما تقوم به إسرائيل اليوم من محاولات لتهويد الآثار لا يختلف عن مشروع الحفريات المستمرة في أنفاق مدينة القدس منذ عام 1985، بحثا عن أي دليل يربط المدينة زورا بالتاريخ التوراتي. ورغم عشرات السنين من التنقيب، لم تعثر إسرائيل على ما يثبت روايتها، لكنها تستمر في نهجها العدواني غير آبهة بالحقيقة، ولا بالقانون الدولي، ولا بمشاعر ملايين العرب والمسلمين والمسيحيين حول العالم.
ويختتم الخواجا حديثه قائلا: "إن ما يحدث في الضفة الفلسطينية من تهويد للأرض والتاريخ ليس مجرد انتهاك عابر، بل هو جزء من مشروع استعماري إحلالي يستهدف اقتلاع الفلسطيني من أرضه، ومحو هويته، وسرقة ذاكرته الجماعية. لكن رغم كل ذلك، تبقى الحقيقة راسخة: فلسطين عربية بجذورها، إسلامية ومسيحية بمقدساتها، ولن يغير الاحتلال من هذه الحقيقة شيئا". نقلا عن مجلة الحياة الجديدة
No comments:
Post a Comment