الأراضي المقدسة الخضراء / GHLands
"وقعنا بين خيارين، أقلّهما مرارة هو النجاة بأرواحنا… تحت نار الاحتلال ونار التهجير، لم يبقَ لنا سوى رحمة الله."
بهذه الكلمات يلخص نصار رشايدة، أبو محمد (58 عاما)، مأساة عائلته التي هُجرت قسرا من منطقة شعوب تيمة التابعة لمنطقة عرب الرشايدة جنوب شرق بيت لحم.
أبو محمد، الأب لسبعة أبناء متزوجين، وجد نفسه مع عائلته الممتدة التي تضم 27 فردا، أمام واقع قاسٍ بعدما أحرق المستوطنون منازلهم وسرقوا مواشيهم وهددوهم بالقتل تحت قوة السلاح. لم يتمكنوا من حمل شيء من ممتلكاتهم، تاركين خلفهم أكثر من 30 دونما ورثوها عن أجدادهم، وذكريات طفولة وصبا وحياة كاملة في بيوت الشَّعر.
اليوم، يتنقل أبو محمد وأفراد أسرته من مكان لآخر بلا مأوى ولا رزق، محاصرين بذكريات أرضٍ فقدوها قسرا، عاجزين عن التأقلم مع حياة لا تشبه البداوة التي كبروا عليها. يقول بحسرة: "خسرنا كل شيء، وضاع شقاء العمر، لم يبقَ لنا سوى الذكريات."
يتابع أبو محمد بصوت خافت مثقل بالحسرة وهو يسترجع تفاصيل تهجيره مع عائلته: "كنا نعيش بجوار مستوطنة معالي عاموس، واعتدنا على مضايقات المستوطنين، لكن ما حدث بعد السابع من أكتوبر 2023 كان الأشد فظاعة، لقد حولوا حياتنا إلى جحيم يومي."
وحسب أبو محمد، فقد بدأت الاعتداءات بوضع بيوت متنقلة للمستوطنين على مقربة شديدة من منازل عائلته، لتتحول حياتهم إلى سلسلة من المضايقات المتكررة: إلقاء النفايات على بيوتهم، ترك المواشي تلتهم مزروعاتهم، ومنعهم في المقابل من رعي ماشيتهم. ومع حلول الليل، كانت الحجارة تنهال على بيوتهم، والمواشي تُسرق تباعا.
يستذكر أبو محمد في حديثه لـ "آفاق البيئة والتنمية" لحظة فارقة حين أحرق المستوطنون منزل أحد أبنائه: "نجا ابني بزوجته وأطفاله بصعوبة، وبعدها تواصلت التهديدات المباشرة بالقتل. كانوا يقولون لنا: إذا بقيتم سنقتلكم، هذه الأرض لنا وأنتم الغرباء فيها." وبعد أسابيع من الصمود، في ليلة واحدة تبدّلت حياتهم بالكامل. فمع انتصاف الليل، هاجم أكثر من أربعين مستوطنا مسلحا بيوتهم، ولم يكن أمام العائلة سوى الفرار حفاظا على أرواحها. وفي الصباح، عادوا ليجدوا الدمار: منازل مهدمة، خلايا شمسية وخزانات مياه منهوبة، وعلف المواشي بين ما أُحرق وما سُرق.
لكنّ المأساة لم تتوقف عند هذا الحد. فحتى حين لجأوا إلى منطقة أخرى قريبة، لاحقتهم الهجمات مجدّدا بحجة أن تلك الأرض أيضا "ملك للمستوطنين"، ليجد أبو محمد نفسه في النهاية مضطرا للانتقال مع عائلته الكبيرة إلى المنطقة الجنوبية، أقرب إلى تجمعات عرب الرشايدة، باحثا عن ملاذ آمن.
أليات التدمير الإسرائيلية تواصل اقتلاع التجمعات البدوية دون توقف
جذور بدوية
تشكل التجمعات البدوية شريحة مهمة من المجتمع الفلسطيني، فهي جزء أصيل من النسيج السياسي والاقتصادي والاجتماعي، ضمن فسيفساء فلسطينية متنوعة تشمل المدن والقرى والمخيمات والحياة البدوية التقليدية.
يتوزع البدو على السفوح والمرتفعات الشرقية للضفة الغربية، بدءا من جنوب شرق الخليل مرورا بشرق بيت لحم، ثم شرق بادية القدس وأريحا، حيث يتركز عدد كبير من التجمعات البدوية. كما تنتشر التجمعات في الأغوار الشمالية والمناطق الواقعة بين رام الله وأريحا، إضافة إلى عدد محدود من التجمعات في شمال الضفة الغربية.
وحسب إحصائيات منظمة البيدر للدفاع عن حقوق البدو، يبلغ عدد البدو الفلسطينيين حوالي 400 ألف نسمة، موزعين على أكثر من 212 تجمعا بدويا و22 قرية بدوية ثابتة. أغلب هذه التجمعات تعود أصول سكانها إلى النقب، الموطن الأصلي للبدو، حيث تم تهجيرهم إبان النكبة الفلسطينية عام 1948، وتعرضوا لتهجير إضافي بعد عام 1967، ثم خلال الثمانينيات، مستمرين في مواجهة موجات الترحيل حتى أيامنا هذه، في ظل استمرار سياسات الاحتلال التي تهدد وجودهم وأرضهم.
التجمعات البدوية إذن، ليست مجرد مجموعات سكانية، بل مكوّن أصيل من النسيج الفلسطيني، يحمل ذاكرة التاريخ ويواجه تحديات الحاضر، بين الصمود والتهجير المستمر.
تشريد البدو الفلسطينيين دون رحمة
7 أكتوبر وتصاعد وتيرة الاعتداءات
يقول راسم شعبان، مفوض العلاقات الخارجية في منظمة البيدر، بأن الاحتلال، قبل السابع من أكتوبر 2023، كان يحاول فرض مضايقاته على التجمعات البدوية عبر قواته ومستوطنيه، إلا أن هذه المحاولات قوبلت أولا بصمود الفلسطينيين على أراضيهم، وثانيا بضغوط دولية حالت دون تفريغ بعض المناطق من سكانها، مثل الخان الأحمر الذي شكّل رمزا للمقاومة الشعبية والدعم الدولي، وخصوصا من الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة. لكن بعد السابع من أكتوبر، "خرجت الأمور عن السيطرة"، على حدّ وصفه، إذ استغل الاحتلال انشغال العالم بعدوانه على غزة لتسريع مخططاته الاستيطانية، وهو ما عبّر عنه وزير مالية الاحتلال، بتسلئيل سموتريتش، حين قال صراحة: "نريد مساحات أكبر بعدد سكان أقل"، في إشارة واضحة إلى مشروع الإستئصال الجاري على الأرض.
وبحسب منظمة البيدر، فإنّ هذه السياسات تُرجمت عمليا بتهجير مباشر وممنهج لسبعة وستين تجمّعا بدويا بعد السابع من أكتوبر، يقطنها ما بين 600 و800 شخص، تركزت معظمها في وسط الضفة الغربية، خاصة في المناطق الشرقية من محافظة رام الله والمناطق المحيطة بأريحا والأغوار. وأوضح حسن مليحات، المشرف العام على المنظمة، أن هذه التجمعات تعرضت منذ ذلك التاريخ لأكثر من 10 آلاف انتهاك متنوع، شملت الاعتداءات الجسدية والضرب، وحرق وتدمير المنازل، وتخريب المدارس والاعتداء على الأطفال والمعلمات. ولم تقتصر الانتهاكات على البشر فقط، بل امتدت إلى مصادر رزقهم، حيث استولى المستوطنون على المواشي وأتلفوا المزروعات وأطلقوا أبقارهم في أراضي البدو المزروعة، بهدف شلّ قدرتهم الاقتصادية ودفعهم إلى الرحيل.
كما طال الاستهداف البنى التّحتية والخدمات الأساسية، فتمّ تجفيف نهر العوجا، الذي كان يغذي تلك التجمعات بالمياه للشرب والري، إضافة إلى تدمير وسرقة الخلايا الشمسية لمنعهم من الحصول على الكهرباء. وفرض الاحتلال حصارا خانقا على التجمعات البدوية، مُقيّدا حركة رعي المواشي، ما دفع العديد من الأهالي إلى بيع قطعانهم تحت الضغط. ويؤكد مليحات أن هذه الإجراءات تأتي في إطار سياسة أشمل تستهدف المناطق المصنفة (C)، من خلال "هندسة جغرافية المكان، والقضاء على الوجود الفلسطيني، وخلق تفوق عددي يهودي في تلك المناطق، لتحقيق أهداف سياسية على رأسها إقامة حزام استيطاني شرق الضفة الغربية".
ويضيف مليحات أنّ: "مجموع الأراضي التي تمت السيطرة عليها في المناطق المصنفة C نتيجة الأوامر العسكرية والمصادرة للمحميات الطبيعية ولأغراض ما يسمى استخدام الدولة ورعي المستوطنين، بلغ 786 ألف دونم"، مشيرا إلى أنّ "30% من تلك المساحة كانت مأهولة بالتجمّعات البدوية". وتكشف هذه السياسات حجم الخطر الداهم الذي يتهدد الوجود البدوي، إذ يواجه نحو 70 تجمعا بدويا خطرا دائما ووشيكا بالتّهجير، أبرزها 46 تجمّعا في بادية القدس، فضلا عن عشرات التجمعات الأخرى في الأغوار. ورغم أن الاحتلال هجر بالفعل الكثير منها، إلا أنّ ما تبقى منها ما يزال صامدا، يواجه يوميا سياسات القمع والاقتلاع في معركة بقاء مفتوحة.
تصعيد إسرائيلي كبير في عمليات اقتلاع وتهجير التجمعات البدوية الفلسطينية في الضفة الغربية
تهجير يسرق الحياة ويقوض سبل العيش
لا يقتصر التهجير القسري للتجمعات البدوية على اقتلاع الناس من بيوتهم وأراضيهم فحسب، بل يمتد ليترك جروحا عميقة في النسيج الاجتماعي والاقتصادي لهذه المجتمعات. فالبدو الذين ارتبطت حياتهم تاريخيا بالأرض والمراعي والمواشي يجدون أنفسهم محرومين من مصدر رزقهم الأساسي، لتتسع دائرة الفقر والبطالة وتتعاظم معاناة الأسر. ومع فقدان الأرض والمسكن، تتصدع الروابط الاجتماعية وتتفكك ملامح الحياة البدوية التقليدية، فيتحول الصمود اليومي إلى معركة من أجل البقاء.
غالبية التجمعات البدوية في الضفة الغربية امتهنت الرعي والزراعة عبر أجيال، وهي مهن ارتبطت بنمط حياتهم وثقافتهم البدوية، ما يجعل من الصعب على البدوي أن يعتاش من مهنة أخرى في ظل الظروف السياسية والاقتصادية الخانقة. ومع سياسات الاحتلال وهجمات المستوطنين، اضطر كثيرون إلى بيع مواشيهم، لتجد مئات العائلات نفسها تحت خط الفقر، تواجه خطر انعدام الأمن الغذائي وتبحث عن قوتها اليومي وسط الاقتلاع المستمر والتهديد الدائم بالترحيل.
يقول حسن مليحات، إن العائلات البدوية التي تُهجّر غالبا ما تلجأ إلى الاندماج مع تجمعات أخرى تجمعها بها صلات قرابة أو مصاهرة، بينما يرحل آخرون إلى مناطق يظنونها أكثر أمنا. ويشير إلى مثال عرب الكعابنة الذين هجّروا في تموز/ يوليو 2025 من منطقة المعرجات بعد هجمات متكررة، واضطروا للانتقال إلى منطقة أخرى تبعد سبعة كيلومترات عن موطنهم الأصلي.
لم تقتصر هذه السياسات على سرقة الأرض والمواشي، بل خلفت آثارا اجتماعية واقتصادية قاسية، إذ دفعت عشرات العائلات إلى العوز، وحالت دون قدرة الكثيرين على تعليم أبنائهم في الجامعات والمعاهد. أما في التعليم الأساسي، فالوضع أكثر مأساوية. مدرسة عرب الكعابنة الأساسية، التي أنشئت عام 1968 وكانت تستقبل نحو مائة طالب، أُغلقت بفعل هجمات المستوطنين، ومع بدء العام الدراسي وجد أطفال عرب الكعابنة أنفسهم بلا مقاعد دراسية.
الانتهاكات طالت أيضا صحة الأطفال النفسية والجسدية. حيث يصف مليحات ما يحدث بـ "التسرب المدرسي القسري"، إذ يخشى الأطفال التوجه إلى مدارسهم بعد اعتداءات المستوطنين المتكررة، ما ترك عليهم آثارا نفسية بالغة. أبو محمد الرشايدة، أحد المهجرين، يروي أن ابنه البالغ من العمر 12 عاما بات يعاني من كوابيس متكرّرة، يحلم فيها أنه يُختطف أو يُعتدى عليه، الأمر الذي اضطره إلى عرضه أسبوعيا على أخصائية نفسية.
حياة البداوة الفلسطينية التقليدية
E1 وخطر التهجير
يمثل مشروع E1 الاستيطاني أخطر المخططات التي تهدد التجمعات البدوية في بادية القدس، ليس باعتباره توسعا استيطانيا جديدا فحسب، بل كأداة للقضاء على الوجود الفلسطيني في مناطق ذات أهمية استراتيجية للشعب الفلسطيني بأكمله. بحسب حسن مليحات، فإن تنفيذ المشروع في مرحلته الأولى سيقضي على التجمعات البدوية الواقعة بين مستوطنة معاليه أدوميم ومدينة القدس، ومن أبرزها تجمع جبل البابا. وفي حال استكمال المشروع، الذي يمتدّ مخططه إلى البحر الميت ضمن ما يُعرف بمشروع القدس الكبرى، سيتم القضاء على بقية التجمعات البدوية البالغ عددها 46 تجمعا، ما يعني عمليا اختفاء الوجود الفلسطيني من بادية القدس وهندسة الديمغرافيا لصالح المستوطنين.
ويضيف مليحات "مشروع E1 من أخطر المشاريع على الإطلاق، وكان مخططا قبل السابع من أكتوبر (2023)، لكن هذا التاريخ ساهم في تسريع تنفيذه؛ إذ استطاع الاحتلال تنفيذ ما كان يخطط له طيلة العشرين عاما السابقة خلال فترة قصيرة، مستغلا الظروف الإقليمية والسياسية لتجاوز كل العوائق"، على حد تعبيره.
ويشير راسم شعبان، مفوض العلاقات الخارجية في منظمة البيدر، إلى أن حكومة الاحتلال أبرمت اتفاقا مع "بلدية مستوطنة معاليه أدوميم" لتوسيع المستوطنة وإقامة أكثر من 4000 وحدة سكنية استيطانية على حساب السكان الأصليين من البدو بعد تهجيرهم قسرا، في تجاهل كامل لكل المواثيق والقوانين الدولية.
في ضوء هذه المخططات، يصبح مشروع E1 أداة مركزية في سياسة الاحتلال الرامية إلى تفريغ بادية القدس من سكانها الفلسطينيين الأصليين، وعزل التجمعات البدوية، وفرض واقع ديموغرافي جديد يخدم الاستيطان ويحد من أي تواصل طبيعي للأراضي الفلسطينية.
مسميات براقة لمشاريع إسرائيلية هدفها القضاء على التجمعات البدوية
معركة البقاء
حلّ الغريب مكان البدوي، نصب جدرانه فوق خيمة أُزيلت، وزرع ظله على أرض لم يعرف سرّها. لكنه لم يفلح في اقتلاع أنفاس الصحراء من صدر أبي محمد، ولا في إخماد الحنين المشتعل في ذاكرة سبعة وعشرين فردا حملوا معهم صورة البيت والقطيع وصوت الريح في ليالي البادية. فالأرض، وإن غاب عنها أهلها قسرا، تظل تناديهم بأسمائهم، وتظل الخيمة المهدومة شاهدة على أن البدوي لا يُستبدل، وأن الغريب مهما طال مقامه سيبقى عابرا.
No comments:
Post a Comment