الأراضي المقدسة الخضراء / GHLands
تتناول هذه الورقة تقدير الموقف الراهن لمشروع الاستيطان اليهودي في قطاع غزة بعد حرب 2023، من حيث خلفيته التاريخية وقاعدته السياسية والاجتماعية، إضافة إلى المؤسسات والمنظمات التي تعمل على تفعيله ميدانيًا، وفرص نجاحه أو فشله في ظل المتغيرات الحالية.
أولًا: خلفية تاريخية لتطور الاستيطان في قطاع غزة
يعود الوجود الاستيطاني اليهودي في غزة إلى ما قبل قيام دولة إسرائيل. ففي عام 1946 أنشأ الصندوق القومي اليهودي 11 مستعمرة في منطقتي النقب وقطاع غزة، من بينها مستوطنة "كفار داروم" قرب خان يونس، التي أُخليت لاحقًا بعد استعادة القوات المصرية السيطرة على المنطقة خلال حرب 1948.
عقب احتلال إسرائيل للقطاع وسيناء عام 1967، بدأت مرحلة جديدة من الاستيطان المنظم، بلغت ذروتها حتى عام 2005 حين نفذت إسرائيل خطة الانفصال، فتم تفكيك 21 مستوطنة يسكنها نحو 8600 مستوطن. كانت هذه المستوطنات ذات طابع ديني–أيديولوجي، لكنها شكّلت أيضًا مشاريع اقتصادية متقدمة، إذ صدّرت منتجات زراعية بقيمة 200 مليون دولار سنويًا، أي ما نسبته 15% من الصادرات الزراعية الإسرائيلية، وتُقدر قيمة أصولها الإجمالية بنحو 23 مليار دولار.
تطور هذا المشروع ضمن ما سُمّي "خطة الأصابع الخمس" التي وضعها أريئيل شارون (1969–1973)، وهدفت إلى تقسيم القطاع إلى أربعة أجزاء بواسطة خمس كتل استيطانية تمتد من الشرق إلى الغرب لضمان السيطرة الإسرائيلية الكاملة.
شملت هذه الكتل:
-
التكتل الشمالي قرب عسقلان، وضم مستوطنات مثل نيسانيم وآيلي سيني ودوجيت.
-
محور نتساريم، الذي فصل مدينة غزة عن وسط القطاع.
-
ممر كيسوفيم، الرابط بين دير البلح وخان يونس.
-
ممر سوفا، الذي يفصل خان يونس عن رفح.
-
محور صلاح الدين (فيلادلفي)، الممتد على طول الحدود المصرية–الفلسطينية.
منذ الانتفاضة الأولى عام 1987، تحولت هذه المستوطنات إلى أهداف رئيسية للمقاومة الفلسطينية، ما جعلها عبئًا أمنيًا متزايدًا على الجيش الإسرائيلي، خاصة خلال الانتفاضة الثانية (2000–2004) حين قُتل 97 جنديًا إسرائيليًا في القطاع.
ورغم الانسحاب عام 2005، لم تغب فكرة الاستيطان عن الخطاب الأيديولوجي لليمين الإسرائيلي، حيث أُنشئت مؤسسات لإحياء "ذاكرة غوش قطيف"، منها متحف غوش قطيف في القدس ومراكز أبحاث ونشاطات ثقافية واجتماعية لإبقاء فكرة العودة إلى غزة حيّة في الوعي الإسرائيلي.
هذا الانسحاب شكّل صدمة داخل الحركة الصهيونية الدينية التي اعتبرته تقويضًا للرؤية التوراتية الموعودة، ما دفعها إلى تبني استراتيجية جديدة للتمدد داخل مؤسسات الدولة – كالجيش والقضاء والإدارة – لتجنب تكرار تجربة الانفصال.
ثانيًا: عودة فكرة الاستيطان بعد حرب 2023 – البنية التنظيمية والسياسية
رغم النفي الرسمي، تعمل جهات إسرائيلية منذ حرب 2023 على تهيئة البنية التحتية والسياسية للعودة إلى الاستيطان في غزة.
تشير تقارير ميدانية إلى أن الجيش الإسرائيلي استولى خلال الأشهر التسعة الأولى من الحرب على نحو 26% من أراضي القطاع، وجرف مساحات زراعية واسعة، وأقام بنى تحتية وطرقًا جديدة، على نحو يذكّر ببدايات المشروع الاستيطاني في الضفة الغربية بعد عام 1967.
في كانون الثاني 2024، كشف ضباط في الجيش الإسرائيلي أن نتنياهو ومسؤولين حكوميين أوعزوا بإنشاء "قواعد دائمة" في غزة، ما فُسر كخطوة تمهيدية نحو الاستيطان الدائم. وفي السياق ذاته، قاد اليمين الديني المتطرف حملة سياسية وإعلامية منظمة لإعادة طرح فكرة "العودة إلى غزة" باعتبارها مشروعًا وطنيًا وأمنيًا.
1. تأسيس لوبي برلماني داعم للاستيطان
في حزيران 2024، أُعلن عن تأسيس "لوبي العودة إلى غزة" في الكنيست، بقيادة عضوي الكنيست تسيبي سوكوت وليمور سون هار-ميلخ (من حزب الصهيونية الدينية).
يضم اللوبي وزراء وأكاديميين ونشطاء من حركات استيطانية، ويدعو علنًا إلى إعادة بناء المستوطنات السابقة واستحداث أخرى جديدة.
تم تسجيل أكثر من 600 عائلة أعربت عن استعدادها للانتقال إلى القطاع فور توفر الظروف الأمنية المناسبة، فيما ربط بعض أعضاء اللوبي بين الاستيطان وتشجيع "هجرة الفلسطينيين" كحل لأمن إسرائيل.
2. مؤتمرات الاستيطان في غزة
شهد عام 2023 انطلاق حملة "العودة إلى الوطن" التي نادت بإعادة الاستيطان في القطاع، وتوّجت بعقد مؤتمر أشدود (تشرين الثاني 2023) بمشاركة منظمات يمينية بارزة.
وفي كانون الثاني 2024، انعقد المؤتمر الأول للاستيطان في غزة تحت شعار "الاستيطان يجلب الأمن والنصر". شارك فيه نحو 12 وزيرًا و15 عضو كنيست، بينهم إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش، وأُعلن خلاله عن خطة عملية لإنشاء "غزة الجديدة".
أعقبه في تشرين الأول 2024 المؤتمر الثاني، حيث تم الكشف عن بدء تجهيز 40 مبنى لنقلها إلى غزة فور سماح الظروف الميدانية، كما جرى عرض خرائط رمزية للمستوطنات المقترحة وبيع منتجات ترويجية تحمل شعارات مؤيدة للمشروع.
الجدول (1): أسماء الوزراء الإسرائيليين من الحكومة الـ 25 والذين ينظمون مؤتمر الاستيطان غزة ويشاركون فيه

3. منظمة "نحالا" ودور دانييلا فايس
تتصدر منظمة "نحالا" المشهد الاستيطاني، وهي من أبرز الحركات اليمينية الدينية التي تعمل على إنشاء مستوطنات في الأراضي المحتلة.
رئيستها دانييلا فايس أعلنت أنها "زارت غزة عدة مرات خلال الحرب" وأشرفت على تجنيد نحو 700 نواة استيطانية تمهيدًا للانتقال إلى القطاع.
كما وضعت خطة خمسية تُعرف باسم "خطة الارتباط" تهدف إلى إعادة السيطرة اليهودية على غزة بحلول عام 2025، عبر إقامة تجمعات مؤقتة قرب الحدود وتوسيعها لاحقًا داخل القطاع.
فايس تعتبر أن تصريحات نتنياهو بعدم واقعية المشروع مجرد "خطاب موجه لواشنطن"، مؤكدة أن الاستعدادات العملية تسير فعليًا على الأرض.
4. البؤر الاستيطانية الجديدة: "إلي عزة" نموذجًا
في حزيران 2024، أُقيمت بؤرة استيطانية باسم "إلي عزة" قرب كيبوتس إيريز، بدعم مباشر من سموتريتش وبن غفير.
تضم البؤرة خيمًا ومرافق تعليمية أولية وتُعد قاعدة انطلاق لمستوطنات مستقبلية داخل غزة، رغم معارضة نتنياهو العلنية لها.
ثالثًا: الخرائط المقترحة ومآلات المشروع
خلال مؤتمر كانون الثاني 2024، تم عرض خريطة استيطانية تخيلية تقترح إنشاء 15 مستوطنة يهودية كانت قائمة قبل عام 2005، إلى جانب 6 مستوطنات جديدة، تُقام معظمها على أنقاض المدن الفلسطينية الرئيسية مثل غزة وخان يونس ورفح.
تحمل هذه المستوطنات أسماء ذات دلالات توراتية مثل "عودة صهيون" و"أبطال غزة"، مع استبدال الأسماء العربية بأخرى عبرية في إشارة رمزية إلى "تحرير الأرض".
وتظهر في الخريطة رموز دينية كنجمة داوود في مراكز المدن، ما يعكس البعد الأيديولوجي العميق للمشروع.
رابعاً: إمكانيات الاستيطان الإسرائيلي في قطاع غزة
تطرح الدعوات الإسرائيلية المتزايدة لإحياء المشروع الاستيطاني في قطاع غزة تهديدًا جديًا، لا سيّما في ظل المناخ السياسي والفكري السائد داخل إسرائيل بعد حرب 2023. فبينما تعزز بعض العوامل فرص تحقيق هذا المشروع، من حيث الدعم الأيديولوجي والمؤسساتي والبنية التحتية العسكرية القائمة، هناك في المقابل عقبات بنيوية وسياسية وأمنية تجعل من تطبيقه على أرض الواقع أمرًا بالغ الصعوبة في المدى المنظور.
عوامل تعزز مشروع الاستيطان في قطاع غزة
إن إقامة مشروع استيطاني جديد في القطاع تستلزم بنية سلطوية مزدوجة:
-
سلطة أمنية–عسكرية تضمن السيطرة الميدانية الصارمة على الأرض والسكان،
-
وسلطة مدنية–إدارية تتولى تنظيم شؤون المستوطنين، على غرار “الإدارة المدنية” في الضفة الغربية أو أي كيان مشابه يتم استحداثه.
في هذا السياق، يُعتبر محور نتساريم مثالًا بارزًا على إمكانية إنشاء منطقة حدودية عازلة تشكّل قاعدة أولى لتمركز السلطة الإسرائيلية داخل غزة. فمنذ اندلاع الحرب، أقامت إسرائيل على طول هذا المحور (الذي يمتد بطول 8 كم وعرض 7 كم) بنية تحتية عسكرية متطورة، تشمل ست قواعد ونقاط مراقبة دائمة، تُستخدم اليوم كخط فصل يمنع عودة السكان الفلسطينيين إلى شمال القطاع. هذا التطور يعكس تحولًا في طبيعة السيطرة الإسرائيلية من مؤقتة إلى شبه دائمة، ويكشف نيات تتجاوز الأهداف العسكرية المعلنة.
من جهة أخرى، تستمد حركة الاستيطان الإسرائيلية قوتها من ثلاثة عناصر متكاملة:
-
العامل السياسي: تراجع فكرة "حل الدولتين" من الأجندة الرسمية الإسرائيلية، ما يمنح المستوطنين غطاءً أيديولوجيًا لتوسيع مشاريعهم دون معارضة داخلية جدّية.
-
العامل السلطوي: وجود حكومة يمينية–دينية تضم وزراء من التيار الاستيطاني نفسه، مثل سموتريتش وبن غفير، ما يعني أن الداعمين للمشروع باتوا في مراكز القرار وليس في هامش النظام السياسي.
-
العامل التنظيمي: النمو الهيكلي الواسع لحركة الاستيطان خلال العقد الأخير، حيث تمتلك اليوم شبكة متكاملة من المنظمات التمويلية والتعليمية والإعلامية والأكاديمية، بالإضافة إلى لوبيات داخل الكنيست وصناديق دعم مخصصة لبناء البؤر الجديدة. هذا التكامل المؤسساتي يجعلها قادرة على تحويل أفكارها العقائدية إلى خطط تنفيذية ملموسة.
في المقابل، تواجه فكرة الاستيطان في القطاع عقبات سياسية وأمنية معقدة تجعل تطبيقها في الوقت الراهن أمرًا غير مرجّح.
أولًا، استمرار الحرب وغموض مآلاتها التفاوضية يشكّلان عاملًا حاسمًا. فنتائج المفاوضات – التي تشمل بنودًا أساسية مثل الانسحاب الإسرائيلي الكامل ووقف إطلاق النار – قد تُعيق أي محاولة إسرائيلية لفرض واقع استيطاني دائم في غزة، خاصة في ظل احتمال تعرضها لضغوط دولية مكثفة.
ثانيًا، من منظور الجيش الإسرائيلي والمؤسسة الأمنية، فإن إقامة مستوطنات جديدة داخل القطاع ليست مكسبًا استراتيجيًا، بل عبء أمني وإداري ومالي ضخم. إذ يتطلب ذلك نشر قوات كبيرة لحماية المستوطنين وتأمين الطرق، في وقت تواجه فيه إسرائيل استنزافًا مستمرًا في الموارد البشرية والعسكرية.
ثالثًا، المجتمع الدولي يقف موقفًا معارضًا بوضوح لأي عودة للاستيطان في غزة. فقد جددت إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن رفضها التام للاستيطان واعتبرته عقبة أمام السلام، وفرضت بالفعل عقوبات على منظمات استيطانية في الضفة الغربية خلال عام 2024. أما الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، الذي أعلن رغبته في إنهاء الحرب بسرعة، فمن غير المرجّح أن يمنح إسرائيل ضوءًا أخضر للبقاء في غزة، رغم احتمالية دعمه لسياسات الضم في الضفة الغربية. كذلك، أبدت ألمانيا قلقًا بالغًا من الخطط الإسرائيلية لإعادة توطين اليهود في القطاع، مؤكدة رفضها لأي محاولة لبناء مستوطنات جديدة هناك.
على الصعيد الإقليمي، فإن هذه التوجهات تهدد مسار التطبيع مع السعودية ودول عربية أخرى، التي تعتبر إعادة الاستيطان في غزة خطوة استفزازية تقوّض المبادرات الدبلوماسية وتعمّق عزلة إسرائيل الدولية. كما أن هذه السياسات تُعد انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي الذي يجرّم التهجير القسري والاستيطان في الأراضي المحتلة، ما يفاقم الضغوط السياسية والقانونية على إسرائيل.
*نشر بتاريخ 04 / 12 / 2024 على موقع المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية "مدار"
.jpeg)
No comments:
Post a Comment