الأراضي المقدسة الخضراء / GHLands
تُعد مغارة الكتان، المعروفة أيضًا باسم مغارة القطن أو مغارة سليمان، واحدة من أوسع المغارات التاريخية الواقعة أسفل البلدة القديمة في القدس، وتحديدًا بين بابي العامود والساهرة. وقد سُمّيت بهذا الاسم نسبة إلى استخدامها في إحدى الفترات كمخزن للقطن والكتان، وفق ما أورده الباحث المقدسي فؤاد قطينة.
وتبلغ مساحة المغارة نحو 9000 متر مربع، وتمتد في عمق الأرض إلى مسافة تقارب 3000 متر أسفل سور البلدة القديمة ومنازل سكان القدس، فيما يصل طول الكهف من مدخله حتى أبعد نقطة فيه إلى نحو 200 متر، ويبلغ عرضه قرابة 100 متر، بعمق يصل إلى 9 أمتار تحت مستوى الشارع، إضافة إلى وجود مستويات أعمق وأنفاق مغلقة.
وبحسب باحثين مقدسيين، يعود تاريخ المغارة إلى العهد الكنعاني، حيث كانت في الأصل كهفًا طبيعيًا صغيرًا جرى تحويله لاحقًا إلى محجر استُخدم بشكل متواصل منذ القرن الأول قبل الميلاد وحتى القرن السادس عشر الميلادي. وقد استُخرج منها نوع مميز من الحجر الجيري سهل القطع، وكان من أفضل مواد البناء في القدس، واستُخدم في تشييد القصور والأسوار والمباني الكبرى في العصور الإسلامية.
وأفاد أستاذ الهندسة المعمارية في جامعة بيرزيت، جمال عمرو، أن الاحتلال الإسرائيلي ينفذ مشاريع تهدف إلى تهويد شبكة الأنفاق الكنعانية أسفل البلدة القديمة، والتي يزيد طولها المكتشف عن 1600 متر، وكانت تُستخدم قديمًا لتجميع ونقل مياه الأمطار. وأوضح أن نفقًا يتفرع من مغارة الكتان جنوبًا باتجاه ما يُسمى "نفق الحشمونئيم"، لربط حائط البراق بالمدرسة العمرية، بما يتيح للإسرائيليين الخروج من المدينة دون المرور ببواباتها التاريخية، فيما يمتد نفق آخر شرقًا نحو باب الساهرة، مارًّا أسفل عقارات في الحي الإسلامي.
وأكد مؤرخ القدس الدكتور محمد غوشة في كتابه "حارة السعدية" أن ارتفاع الحي عن غيره من أحياء البلدة القديمة يعود إلى سقف المغارة الواقع أسفل المنطقة، مشيرًا إلى امتدادها العميق تحت الحي.
وفي عهد السلطان العثماني سليمان القانوني استُخدم المحجر في بناء سور القدس الحالي، قبل أن يُغلق عام 1540 تقريبًا لدواعٍ أمنية خشية أن يُستخدم الكهف نقطة اختراق للمدينة، وتم سد مدخله بالحجارة الضخمة، ليطويه النسيان لقرون.
وقد ورد ذكر مغارة الكتان في كتاب "الأنس الجليل بتاريخ القدس والخليل" لمجير الدين الحنبلي، كما أشار إليها الرحالة اللقيمي في كتابه "موانح الأنس برحلتي لوادي القدس" عند زيارته القدس عام 1731م.
وفي القرن التاسع عشر، شهدت المغارة أحداثًا بارزة، منها لجوء رهبان الروم إليها بعد أن أخفاهم محمد علي الخالدي نائب القدس بأمر إنساني، في أعقاب فرمان عثماني كان يستهدفهم، قبل أن يُلغى لاحقًا.
وفي عام 1854، أعاد المبشر الأمريكي جيمس باركلي اكتشاف مدخل المغارة واستكشافها سرًا، قبل أن تصبح مقصدًا للباحثين. وبعد ذلك بسنوات، عثرت بعثة أثرية فرنسية عام 1874 على لوحة حجرية داخل الكهف تُصوّر أسدًا مجنحًا برأس إنسان ونُقلت إلى لندن.
وشهد عام 1907 آخر استخدام للمغارة كمحجر عندما استُخرجت حجارتها لبناء برج الساعة عند باب الخليل في عهد السلطان عبد الحميد الثاني. وخلال الحرب العالمية الثانية، جرى تجهيزها كمأوى محتمل من القصف، ثم أُغلقت مجددًا بعد عام 1948.
وبعد احتلال القدس الشرقية في 1967، أعادت بلدية الاحتلال فتح الموقع وتحويله إلى مَعلم سياحي بدعم مؤسسات إسرائيلية، وتم تحديث الإنارة والممرات عام 1985 بإشراف شركة تنمية القدس الشرقية، وسط انتقادات واسعة لتغيير الطابع التاريخي للمغارة واستغلالها ضمن مشاريع تهويد المدينة.
وتبقى مغارة الكتان شاهدًا على عمق التاريخ الكنعاني والإسلامي للقدس، ومعلمًا أثريًا تتجدد حوله محاولات طمس الهوية العربية للمدينة المقدسة تحت الأرض كما فوقها.



No comments:
Post a Comment