الأراضي المقدسة الخضراء / GHLands
في لحظة ما قد تشعر أن الحظ يضحك لك، حين يُقدر لك أن تعيش لحظات جميلة مع من تحب، فريقنا "اِمشِ وتعرف على بلدك" يستمر في شغفه ومواصلته التعبير عن حبه للطبيعة بطريقته الخاصة، بالتزامه بتنظيم المسارات البيئية.
مجدداً، قضينا معاً لحظات رائعة في أجواء ربيعية ساحرة "وقتئذ"، عانقنا فيها أشعة شمس الصباح وهي تلوح من خلف السحب المنقشعة، شعرتُ بانتعاش يفوق الوصف حينها، ربما لأنه لم يتسنّ لي المشاركة في مسار الأسبوع الذي سبقه، إذ كنت متعبًا بعض الشيء.
وصلنا إلى الخان الأحمر وقطعنا الشارع على عجل، وبدأنا نمشي في وادي السدر وهو الوادي المليء بأشجار السدر النامية على ضفافه وفي مجراه.
لم أتوقع هذا القدر من الجمال فيه، وخصوصاً أن براعم العشب الأخضر بدأت في النمو، وأخذت ضفاف الوادي تكتسي باللون الأخضر التي تشكل مع حصى الوادي البيضاء والجبال المحيطة لوحة أخاذة.
الغريب، أن هذا المسار مشيناه قبل عام وكان قد انتهى فصل الربيع، إلا أنه لم يكن بهذا الجمال كما نراه اليوم.
![]() | ![]() |
وعلى ما يبدو أن الأمطار التي هطلت الأسبوع الماضي كانت غزيرة وحملت معها بقايا الأخشاب، التي تجمعت في مجراه بالقرب من مضارب البدو القاطنين في الوادي، وقد سمعنا نباح كلابهم بوضوح.
يقول دليلنا عبد الفتاح حجي: "مسارنا هذه المرة متوسط الصعوبة، يبدأ المسار بالقرب من الخان الأحمر نزولاً باتجاه وادي السِدْر، نستمر في السير في الوادي وصولاً إلى بير المُلقي ووادي الدكاكين، ومن ثم نصعد اتجاه رأس المشاهد ومنطقة درب السكر، ونستمر في السير حتى مقام النبي موسى".
الطقس بارد في ساعات الصباح الأولى، حيث درجات الحرارة في رام الله بلغت 5 درجات مئوية، لكنها في الأجواء الصحراوية وصلت نحو 11 درجة مع هبوب نسمات لطيفة تنعش الفؤاد.
في الوادي مررنا على أشجار من السدر إما مجتمعة أو منفردة، ووقفنا عند إحداها التي كانت جذورها ظاهرة فوق سطح الأرض وملتوية على بعضها البعض، وكأنها أفاعٍ تمارس العشق في الوادي بعد أن عرَّت المياه الجارية في الوادي الجذور لتبدو كما نراها.
أخذنا استراحة للتصوير بالقرب منها، وتابعنا السير حتى وصلنا إلى "بير المُلقي" ووادي الدكاكين، وكانا على يسارنا.
هذه البئر محفورة في الصخر ومكشوفة، ويمكن الوصول إلى قاعها بدرجات حجرية محفورة في الصخر، لكن مياهها مليئة بالطحالب لعرضتها لأشعة الشمس.
مياه البئر يستخدمها الرعاة لسقاية مواشيهم، حيث يُملأ حوض صخري قرب المكان بواسطة الدلو عند الحاجة.
وتقع بالقرب من البئر كهوف صخرية يستخدمها الرعاة للاحتماء من الأمطار أو من أشعة الشمس الحارقة صيفاً.
بعض المستوطنين من هواة قيادة الدراجات الهوائية والنارية تواجدوا في المكان، لم نحتك بهم وهم كذلك، لأنه لا يمكن أن يحدث تعايش مع المحتل سارق الأرض، أذكر أن صوت الدراجات كان مزعجاً وانتشرت رائحة عوادمها مُلوثة الأرجاء، ومن المؤسف أنها عكرت صفو لحظات تأملنا في الطبيعة.
![]() | ![]() |
حصلنا على استراحة قصيرة لشرب القهوة، وبعدها تابعنا السير في مجرى الوادي حتى وصلنا إلى مجموعة صخرية ناعمة الملمس وهي تشكل بداية العبور في "وادي المكليك العلوي" الذي كنا نستمتع بشكل صخوره والكهوف المنتشرة في أعلى المجرى التي اُستخدمت للتعبد أو للحماية من الحيوانات والأمطار على مدار الزمان، حتى وصلنا إلى ساحة مفتوحة وفي كهف كبير بعض أجزاء سقفه مفتوحة للسماء، وبعضٌ منها مغطى بتقاطع فني رائع.
انعطفنا يساراً وبدأنا نصعد الجبل متّبعين الإشارات الخضراء والبيضاء، ومن الواضح أن المسار الذي كنا نمشي فيه هو مسار درجات، وفي أثناء الصعود كنا نرى الجبال القاحلة أمامنا وأخدود الوادي الذي كنا فيه خلفنا.
الدفء بدأ يسري في أجسادنا وكلما صعدنا ازددنا متعة، حتى وصلنا إلى منطقة تجمَّع فيها المستوطنون بدرجاتهم النارية والهوائية، لم نعرهم اهتماماً ونزلنا في الطريق الرفيع وسمحنا لهم بالمرور خوفاً من وقوع التصادم أو حوادث لا يعلم أحد عواقبها في هذه الصحراء الشاسعة.
صعدنا الطريق وأخذت تلوح من بعيد مباني مدينة أريحا على يسارنا، وصلنا إلى مطلة مشرفة يُطلق عليها "راس المشاهد" ومنطقة درب السكر، ثم تناولنا الفطور في المكان وتابعنا النزول في اتجاه مقام النبي موسى، الذي رأينا قبابه البيضاء من بعيد.
![]() | ![]() |
مقام النبي موسى
أخيراً وصلنا إلى المقام بعد أن قطعنا 15 كيلومتراً، كان المكان يكتظ بالزوار العرب، وصلاة الجمعة تُسمع من مكبرات الصوت الخاصة به.
هذا المقام اُستخدم سابقاً لمعالجة مدمني المخدرات، لكنه أصبح فندقاً وفيه المسجد الذي تقام فيه الصلوات بعد ترميمه وتزويده بالمكيفات، وما لبث أن أُلغي جراء احتجاجات الأهالي على الفندق، وأصبح مزارًا للأهالي تقام فيه المواسم الدينية وخصوصاً موسم النبي موسى.
وصلنا إلى المقام وانبهرنا بعظمته، ودخلنا من بوابته الرئيسة التي تتكون من قوسين، الكبير هو "قوس خمس" على الطراز المملوكي، وباب المدخل هو قوس موتور شبيه بما هو موجود في باب العامود في مدينة القدس.
على يمين المدخل ممر يؤدي إلى المراحيض العامة، وعلى يساره ممر يؤدي إلى قاعة الطعام، ومن ثم تلج إلى منطقة مسقوفة يبدو أنها كانت للترحيب بالزائرين وهي عبارة عن قوسين متقابلين من النوع الرومي "الدائري"، ومنها تدلف إلى ساحة الفناء الداخلي وفيه شجرة نخيل، وحولها رواق من الأقواس المدببة "خمس"، وبعضها دائري، ويوجد فيها درجان حجريان يؤديان إلى الطابق الأول، وعلى يسار الساحة يقع مسجد النبي موسى ومئذنته الرائعة.
ويا للأسف، المكان بات عرضة للتخريب من تكسير الأبواب والنوافذ، وكأنه انتقام من صرح وتراث تاريخي كان الأّولى المحافظة عليه والاهتمام به، إلا أننا وجدنا الأهالي يستظلون في الأروقة وأولادهم يلعبون في الفناء الداخلي ويكسرون النوافذ.
أعتقد أنه لو ظل فندقاً كان سيبقى محتفظاً برونقه، لكن بعض مظاهر التخلف أدت إلى إهماله وربما ستؤدي لتدميره، ومن هنا أوجه رسالة لوزارة السياحة والآثار والأوقاف الإسلامية، بضرورة إيجاد السبل لحمايته من الاندثار.
![]() | ![]() |
الأهمية التاريخية
من المتعارف عليه محلياً أن مقام النبي موسى مكان مقدس؛ لأنه يضم ضريح النبي موسى عليه السلام، الذي يعد واحدًا من أهم الرسل في حياة المسلمين.
الحجارة الحمراء القابلة للاشتعال تزيد من قداسة وحرمة هذا المقام، الخاصية الرائعة في هذه الحجارة ترجع إلى احتواء الأملاح الموجودة فيها على القطران والزيت، وقد استخدم الحجاج هذه الحجارة للطهي وللحصول على الدفء في فصل الشتاء.
وكان هذا الضريح مركزاً للمهرجان السنوي الذي يقيمه الحجاج والمعروف باسم "المواسم"، وذلك من عهد القائد العظيم صلاح الدين الأيوبي محرر القدس من الطغيان الصليبي في القرن الثاني عشر الميلادي.
ويعتقد المسلمون بأن سيدنا موسى دُفن هنا، علمًا أنه وفقاً لكتاب العهد القديم (سفر تثنية الإشتراع 34) لم يدخل موسى عليه السلام فلسطين أو أرض الميعاد أبداً، لكنه في الأغلب مات في جبل نيبو في الأردن.
جدير بالذكر أن مقام النبي موسى يقع على مسافة 11 كـم (6.8 أميال) جنوب أريحا، و20 كـم (12 ميلًا) شرق القدس في برية الخليل، تؤدي إليه طريق فرعية على يمين شارع القدس أريحا الرئيس على بعد 2 كـم (1.2 ميل)، خلف العلامة التي تشير إلى مستوى سطح البحر.
ويحظى موقع المقام بأهمية تاريخية؛ فهو مأوى للنساك والمتعبدين منذ الفترة البيزنطية، كما يعزز موقعه إمكانية الهجوم والدفاع عن ما يليه، ويتحكم بشبكة الطرق والدروب التي تعبر إلى الجنوب من فلسطين، إلى جنوب الأردن وغرب شبه الجزيرة العربية، لذلك عُرف بـ"درب الحجاج".
وقد رُمّم في العهد العثماني على يد معماريين من أسرة حسين بن علي بن نمر(النّمري)، ومنهم عبد المحسن بن محمود بن حسين، معمار باشي القدس الشريف، وأخوه الحاج كريم.
إليكم بعض المعلومات التاريخية عن هذا المقام التي جمعتها من أكثر من مصدر.
![]() | ![]() |
الفترة/ الأسرة الحاكمة
يعود البناء إلى العصر المملوكي، ووُسِّع ورُمِّم في العصر العثماني.
راعي المبنى
المؤسس الأول للمقام والمجمّع هو السلطان الظاهر بيبرس (حكم في الفترة 658 – 676 ه/ 1260- 1277م). ورمّم المجمع في العصر العثماني كلٌ من علي كتخذا عزبان، وعبد اللطيف الحسيني، وعبد الله باشا والي صيدا وطرابلس، ومحمد طاهر الحسيني مفتي القدس.
وصف المبنى
يعد مقام النبي موسى من أكبر المجمعات المعمارية الدينية في فلسطين، ويتكون من ثلاثة طوابق: التسوية، والأرضي، والأول.
ولمجمع النبي موسى مكانة هامة في حياة وتاريخ أهل فلسطين من نواحٍ دينية ومعمارية واجتماعية وفلكلورية وسياسية.
تبلغ مساحة موقع المجمع 5000 متر مربع، وهو مسوَّر من الجهات الأربعة، وتخطيط المجمع قريب من الشكل المربع، حيث يبلغ طول السور الشمالي 74 م، والسور الغربي 70 م، والسور الشرقي 68 م.
أما السور الجنوبي فهو أقصرها حيث يبلغ طوله 55 م، فُتح في المجمع خمسة أبواب، ويمكن الدخول إليه من المدخل الغربي الرئيس الذي يقوم في الجهة الجنوبية من السور الغربي، وقد بُني المجمع بحجارة رملية، المداميك العلوية (المدماك هو صف من حجارة البناء) منها مهذبة.
تضم التسوية إسطبلاً للخيول ومخازن، ويضم الطابقان الأول والأرضي حوالي مئة غرفة، ومجموعة قاعات ومئذنة ومرافق متنوعة.
![]() | ![]() |
ويوجد في الطابق الأرضي المسجد وغرفة المقام، وهما من أهم أجزاء المجمع، المسجد ذو مسقط مستطيل تبلغ أبعاده 15 م × 10 م، ويتكون من رواقين بواقع ثلاث بلاطات لكل رواق.
وتقع غرفة المقام في البلاطة الشمالية الغربية للمسجد، وهي ذات مسقط مربع طول ضلعه 5.5 م، ويتوسط هذه الغرفة المقام، ويبلغ طوله 4.7 م وعرضه 1.6 م وارتفاعه 1.7 م.
يُشار إلى أن مقام النبي موسى من أهم المقامات في فلسطين بسبب ضخامة بنائه وشهرته الواسعة، وكان من أهم أسباب بنائه هو إظهار إسلامية صحراء القدس.
![]() | ![]() |
وأنشأ السلطان الظاهر بيبرس، مقام النبي موسى، الواقع إلى الجنوب من أريحا على بعد (8 كم)، كما يبعد عن القدس (28 كم) باتجاه الشرق، وبُني المقام في منطقة منعزلة قليلة الأشجار والأعشاب، في الصحراء الممتدة حتى البحر الميت التي اشتهرت بوجود أديرة للنصارى، كما يرتفع فوق تلال صخرية كبريتية ورسوبية.
والمقام مبني بحجارة منحوتة، ووُجِّه باتجاه غرب شرق، يحيط المقام سياج خشبي، وتغطيه كسوة من القماش الأخضر، وسقف المقام عبارة عن قبة نصف كروية تستند إلى أربعة عقود مدببة.
وُقِف على المقام أوقاف كثيرة، ويُعد وقف النبي موسى من الأوقاف التاريخية الغنية المشهورة على مستوى فلسطين التاريخية.
وكان هذا الوقف يؤّمن الطعام والإقامة للزوار مجاناً، علاوة على توفير رواتب لعدد كبير من الموظفين يبلغ نحو 50 موظفاً ما بين متولي وقف، وشيخ مشايخ، وكاتب، وخادم، وفرّاش، وبوّاب، ومؤذن، وشعّال، وخادم تربة، ونفطجي، وحافظ أجزاء القرآن الكريم، ومفرق أجزاء القرآن، وغيرها من الوظائف.
أنهينا المحطة الأخيرة وعدنا إلى رام الله بعد أن استمتعنا بزيارة هذا الصرح التاريخي، وصلنا إلى المدينة الساعة الثانية ظهراً وكانت الطريق بفضل الله سهلة ودون عقبات تُذكر من الاحتلال.
![]() | ![]() |
![]() | ![]() |
![]() | ![]() |
![]() | ![]() |
.jpg)






















No comments:
Post a Comment